تذكرة باتجاه واحد...هجرة مسيحيي العراق بعد فقدان آخر ملاذاتهم الآمنة في كردستان

14 نوفمبر 2017
تزايد هجرة العراقيين المسيحيين بعد أحداث كردستان(العربي الجديد)
+ الخط -
يستعد العشريني زيا عزيز سولاقا للهجرة خلال أيام من وطنه "الذي لم ولن يحب غيره"، حين أيقن باستحالة العيش الآمن للعراقيين المسيحيين بعد الاشتباكات الأخيرة بين قوات البشمركة وفصائل الحشد الشعبي في محيط بلدة تللسقف شمال مدينة الموصل، ما دفعه إلى حسم تردده واتخاذ القرار الأصعب بحسب وصفه.

وبدأت معاناة عائلة سولاقا ورحلة نزوحهم المكوكية منذ عام 2004، حين تعرضوا لأول تهديد لهم خلال إقامتهم في بغداد ما أجبرهم على الرحيل نحو بلدة تللسقف ذات الأغلبية المسيحية، وبعد اجتياحها من قبل عناصر تنظيم داعش عام 2014 رحلت العائلة نحو بلدة عينكاوا في أربيل، ثم عادوا إلى بلدة تللسقف مطلع العام الحالي بعد استعادتها من سيطرة التنظيم، لكن معاناة النزوح تكررت مؤخراً إثر اشتباكات واسعة جرت على مشارف البلدة بين البشمركة والحشد.

سولاقا البالغ من العمر 23 عاماً أعرب لـ"العربي الجديد" عن يقينه بأن العراق لن يشهد استقراراً طويل الأمد، وأن الهدوء النسبي الذي يمر به بين فترة وأخرى ما هي إلا استراحة المليشيات المتحاربة، والتي ما تلبث أن تنتهي ليعود الاحتراب أشد من ذي قبل، خصوصاً مع وجود أكثر من 30 جيشاً محلياً مسلحاً تتبع للقوميات والطوائف والأحزاب والقبائل الكبيرة، وفي أهبة الاستعداد لخوض معارك لا تنتهي.


نزوح داخلي لم ينتهِ

بتفاصيل بسيطة تختلف مشكلة فادي القس بطرس عن سولاقا إذ أنجز آخر خطوات الهجرة من العراق بعد الحصول على تأشيرات الدخول إلى المملكة الأردنية الهاشمية، ولكن معضلته تتمثل بإغلاق مطار أربيل، وهو الإجراء الذي اتخذته الحكومة العراقية بعد إجراء استفتاء الانفصال في الإقليم الكردي في أواخر سبتمبر/أيلول الماضي، مما يجبره على اصطحاب عائلته في سفرة ترانزيت إلى بغداد، وهو ما لا يحبذه في الظروف الحالية.

المهاجر العراقي المولود في مدينة البصرة كان من المتأخرين نسبياً في الهجرة من موطنه، ولم يرغمه على ذلك سوى مقتل شقيقه على أيدي عناصر من المليشيات الدينية في المدينة عام 2013 وهي ذات السنة التي نزح فيها إلى العاصمة بغداد التي لم يمكث فيها أكثر من شهرين لدى أحد أقاربه قبل الانتقال إلى بلدة عنكاوة في شمال إقليم كردستان، وهي المحطة الأخيرة التي سلكها أغلب المسيحيين في رحلة الخروج من العراق.

فادي ذو الأربعين عاماً أوضح لـ"العربي الجديد" أنه الفرد الأخير من عائلة القس بطرس والتي كانت تضم أكثر من 47 أسرة موزعة بين مدن العراق، وخصوصاً في البصرة والموصل قبل أن يهاجروا بشكل متفرق بعد احتلال القوات الأميركية للعراق في عام 2003 ويتوزعوا بين قارتي أوروبا وأستراليا فضلاً عن الأردن التي يستقر فيها حالياً 22 فرداً منهم بانتظار تأشيرات اللجوء.

رجل دين: لا جدوى من البقاء

يقر الأب هرمز نعوم بتوقفه نهائياً عن حث وتشجيع العراقيين المسيحيين على التمسك بموطنهم وديارهم وعدم هجرتها وذلك بعد سلسلة نكبات وفواجع بدأت بالاغتيالات واستهداف الكنائس والاستيلاء على المنازل كان آخرها الكارثة الكبرى حين اجتاح تنظيم داعش مدينة الموصل وأجبر آلاف المسيحيين على مغادرتها.

وبعد سلسلة تهديدات انتهت بإرسال رصاصة مسدس في ظرف رسائل ترك الأب نعوم حي الغدير بجانب الرصافة من العاصمة بغداد حيث تقع كنيسته التي كان يلقي فيها مواعظة في لمدة 15 عاماً وأنتقل الى مدينة أربيل في إقليم كردستان حيث تولى مهمة الإشراف على رعاياه الهاربين من مختلف المدن العراقية وتوفير السكن وفرص العمل لهم والمدارس لأطفالهم، مستدركاً بأن هذه الجهود لم تنفع في إقناعهم بالاستقرار في الإقليم الكردي وثنيهم عن فكرة الهجرة الخارجية خاصة بعد الأحداث الأخيرة.

وتحت ضغط وإلحاح رعاياه عمل الأب المنتمي الى الطائفة السريانية على تكثيف الاتصالات مع مجلس الكنائس العالمي والهيئات والمؤسسات ذات العلاقة من أجل تسهيل الحصول على تأشيرات السفر وموافقات اللجوء، قائلا لـ"العربي الجديد" أن فترة ذروة هجرة العراق الإجبارية كانت بعد اجتياح داعش للموصل في يونيو/حزيران من عام 2014 إذ شهدت تلك الفترة مغادرة أكثر من 80 عائلة أسبوعياً إلى العاصمة الأردنية منطلقين من مطارات إقليم كردستان قبل إغلاقها من قبل الحكومة المركزية في نهاية سبتمبر/أيلول الماضي.

ويرى الأب نعوم أن الأحداث الأخيرة الممثلة بالصدام المسلح بين القوات العراقية والكردية زادت من إقبال رعاياه على السفر، وخصوصاً بعد تهديدات أطلقها قيادي في الحزب الحاكم حول ضرورة دخول مدينة أربيل بالقوة، وهو ما يعني فقدان الملاذ الآمن والأخير للمسيحيين المتجمعين بكثافة في بلدة عينكاوا، مشيراً إلى أن الاشتباكات حول مدينة تللسقف عززت من مخاوفهم ودفعت بعضهم إلى تسريع قرار الهجرة.

بيع المنازل والممتلكات وتصفية المصالح التجارية وتقديم الاستقالة من الوظيفة والتقاعد المبكر هي جميعاً خطوات قامت بها العائلات المسيحية المغادرة من مدن العراق "باستثناء الموصل حيث لم يتسنّ لهم القيام بهذه الترتيبات" وهي أعمال تشير وبحسب الأب نعوم إلى نية واضحة ومؤكدة بعدم العودة مرة أخرى إلى الوطن وهي سابقة لم تحصل أبداً في تاريخ الوجود المسيحي في العراق والممتد إلى آلاف السنين.


أكثر من نصف مسيحيي العراق هاجروا

بلغ عدد  العراقيين المسيحيين مليونين وربع المليون قبل الغزو الأميركي وانخفض الرقم إلى 850 ألفاً في الوقت الحالي، ويعيش معظمهم في مناطق بديلة غير مدنهم الأصلية التي ولدوا ونشأوا فيها، بحسب إحصاءات رسمية قدمها لـ"العربي الجديد" البرلماني ورئيس كتلة الوركاء الديموقراطية جوزيف صليوا.

صليوا اتهم الأحزاب السياسية ومليشياتها المسلحة بممارسة الإرهاب المباشر ضد العراقيين المسيحيين عبر عمليات القتل والخطف والتهديد، فيما مارست الحكومات إرهاباً غير مباشر حين امتنعت عن التحرك لرفع المظلومية التي لحقت بالمسيحيين وتقاعست عن إنصافهم وحمايتهم، معرباً عن يقينه بإفراغ العراق من المسيحيين إذا بقيت الأوضاع في مسارها الحالي، قائلا "مشروع البطاقة الوطنية الموحدة والذي بدأ العراق بتنفيذه خلا تماماً من ذكر القومية الكلدانية الخاصة بالمسيحيين في وقت تم إدراج القوميات الأخرى مثل العربية والكوردية والتركمانية"، متابعاً أن التهميش طاول كل الجوانب، ومنها مؤسسة الإعلام الرسمية التي تحتوي برامج بجميع اللغات في العراق باستثناء اللغة السريانية.

وبما أن فكرة وجود الدولة المدنية في العراق والتي تمثل الحل الأمثل لمشاكل المسيحيين تبدو بعيدة في الوقت الحاضر، يرى السياسي صليوا أهمية استحداث محافظة في منطقة سهل نينوى "شمال العراق" وبإدارة يغلب عليها المكون المسيحي باعتباره التصرف الأمثل في الوقت الحالي للحفاظ على ما تبقى من مسيحيي العراق.

الحياة في الأردن

تغالب الستينية العراقية نسيبه بولص دموعها في شقتها الصغيرة بأحد الأحياء المتواضعة في العاصمة الأردنية، بينما تتحدث عن ذكريات الحياة في بغداد قبل أن تهجرها مع ابنتها وزوجها وطفلهما بعد الغزو الأميركي عام 2003 وتصر في حديثها على تكرار عبارة "أن حياة المسيحيين في العراق باتت مستحيلة".

وإذا كانت نسيبه قد خرجت من العراق بدون خسائر بشرية في أسرتها فإن شقيقة زوجها سناء يعقوب، التي كانت تقيم في الموصل، فقدت زوجها وابنها اللذين اعتقلا من قبل مسلحي داعش في الموصل، بينما فرت هي مع ابنتها إلى كردستان وتتابع إلى الآن التطورات على أمل معرفة مصيرهما، بينما تنقل بولص عن سناء التي تتصل بها بشكل منتظم أن لا رغبة لها بالعودة إلى الموصل، أو البقاء في العراق، وأنها بمجرد أن تعرف مصير زوجها وابنها ستأتي إلى الأردن لتقدم طلب هجرة خاصة بعد التطورات الأخيرة التي يشهدها الإقليم.

وبدأ لجوء مسيحيي الموصل إلى الأردن في آب/أغسطس 2014، عندما قررت الحكومة الأردنية استقبال ألف مسيحي ممن فروا إلى كردستان، ومنحهم تأشيرات دخول سريعة عبر قنصليتها في أربيل غير أن من لجأوا إلى الإقليم يسعون إلى الخروج منه إثر تداعيات استفتاء الانفصال، كما وثّق معد التحقيق عبر 10 حالات من بينهم 6 موظفين حكوميين.

تحرير الموصل لم يعنِ شيئاً للمسيحيين

الإعلان الرسمي عن تحرير مدينة الموصل من سيطرة تنظيم (داعش) لم يعن شيئاً لعائلة أبو سعد اللاجئة في العاصمة عمان، والتي ينصب كل اهتمام أفرادها على إعادة توطينهم في بلد ثالث مفضلين أن يكون أميركا أو أستراليا حيث سبقهم أقاربهم إلى هناك.

تعتقد العائلة المكونة من ثمانية أفراد، وتقيم في بيت مستأجر في أحد أحياء عمّان الفقيرة، أن إعلان تحرير الموصل من التنظيم كذبة، فأم سعد ويؤيدها زوجها والأولاد تعتقد بأن تنظيم داعش لن ينتهي، وليس هناك سبب لعودتهم إلى العراق سوى الرغبة المجانية بالموت، وهو ما حصل لابنتهم ريتا (23 عاماً) التي قضت حرقاً بعد مهاجمة منزلهم في الموصل، وجعل والدتها تؤكد لمعد التحقيق أنها لم تعد تحب وطنها وتكره حتى سماع اسمه، على حد تعبيرها.

وتعتاش عائلة أبو سعد على المساعدات القليلة التي تحصل عليها من مؤسسة كاريتاس الإغاثية (اتحاد 165 منظمة إغاثية وتعمل في مجال التنمية والخدمة الاجتماعية والمساعدات الإنسانيّة) وبعض الجمعيات الخيرية، فيما تقضي أيامها في متابعة أوراقها لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وطلب اللجوء الذي قدمته لدى السفارة الأسترالية في عمّان، وهو أملها الوحيد بحسب رب الأسرة المحاصرة بين غلاء المعيشة في عمان واستحالة العودة إلى الموصل.

وبلغ عدد المسيحيين الواصلين إلى الأردن من العراق منذ سيطرة (داعش) على الموصل 14202 لاجئ، بينهم 1295 لديهم طلبات لجوء رسمية وفقاً لأرقام جمعية كاريتاس الخيرية التي تتكفل برعايتهم.


لماذا الأردن؟

الطلائع الأولى للمسيحيين الفارين من العراق والواصلين إلى الأردن تم إسكانهم في مراكز إيواء أقيمت في داخل الكنائس، وأشرفت جمعية كاريتاس على تقديم المساعدات لهم، لكن مع طول الإقامة جرى مساعدتهم على استئجار بيوت وفقاً لمديرة مكتب كاريتاس في منطقة الهاشمي بالعاصمة عمان خولة حنا التي قالت في حديثها لـ"العربي الجديد"، إن مراكز الإيواء لم توفر الخصوصية اللازمة للعائلات، وكان لا بد من تدبير منازل مستأجرة لهم.

ويعتقد من التقتهم "العربي الجديد" من مسيحيي  الموصل، أن وجودهم في الأردن يعزز من فرص حصولهم على هجرة سريعة، خاصة بعد التطورات المختلفة في كردستان العراق، وهو ما يتفق مع أحدث تقارير "كاريتاس" والذي يرجع فيه اللاجئون أسباب اختيارهم الأردن إلى الأنباء التي ترددت عن فتح البعثات الدبلوماسية في الأردن أبوابها لاستقبال اللاجئين العراقيين وتسهيل إعادة توطينهم في بلدان ثالثة.

حلم التوطين

بالرغم من قلة العدد الذي نجح في عبور العاصمة الأردنية نحو بلد التوطين، فإن الخمسيني أبو فؤاد يحمل أملاً كبيراً في الحصول على حق الهجرة إلى ألمانيا حيث يسكن ولده الكبير والذي دار الحديث عنه مع عدد من زملائه المواظبين على زيارة مكتب كاريتاس في منطقة الهاشمي الشمالي وبشكل يومي لتبادل آخر المعلومات والتطورات بشأن معاملات الهجرة وأخبار مفوضية اللاجئين.

الرجل الذي فر من الموصل نحو كردستان وأمضى ثلاث سنوات في عمان بانتظار الهجرة، يتحدث بأسف كبير عن الخراب الرهيب في مدينته الموصل بعد سيطرة "داعش" عليها والدمار الذي طاول البيوت والكنائس والمساجد والعلاقات الإنسانية والنسيج الاجتماعي هناك.

وفي إجابته على سؤال "العربي الجديد" بشأن إمكانية العودة إلى الموصل وقد تحررت من سيطرة (داعش)، يرد بشكل بديهي وبدون تفكير مسبق "كيف نرجع لمكان يقتلك فيه جارك أو واحد كنت تعتبره صديقك"، قائلا "من بين أفراد التنظيم الذين أوقفوه وأسرته على أحد السيطرات أثناء فرارهم إلى كردستان شبان يقيمون في نفس الحي الذي عاش فيه".

وفي إشارة إلى إنهاء الحديث يوضح أبو فؤاد إنه إذا أستطاع نسيان منظر تفتيشهم من قبل المسلحين وتجريدهم من نقودهم وممتلكاتهم، فإنه من المستحيل ان تزول من ذهنه صورة إجبار ابنته على خلع خاتم خطوبتها ومجوهراتها وأن يعود يوما ما إلى وطنه المسلوب من قبل المتطرفين والسياسيين الطائفيين. 
دلالات