تحولات الشارع اليمني
الشارع ترمومتر لقياس تحولات المواطن، وتفاعله مع الأوضاع السياسية والاقتصادية المحيطة به، ومدى حساسيته في التعاطي مع متغيرات الحياة اليومية، والمؤشر البياني الذي نستشعره لرصد حجم الغضب، أو اللامبالاة التي يوصف بها شعبٌ ما. قبل ثورات الربيع العربي، كان الشارع بدون ملامح، مُغيباً عن واقعه، ولامبالياً، حتى في التعاطي مع القضايا التي تخصه، ولا يتحرك إلا بالسوط العالي لميكرفون النظام ولصالح المعركة التي يديرها، والوجهة التي يراها مناسبة، ولم يكن الشارع، في حالته المسلوبة تلك، يستطيع أن يميز بين حقه الأصيل في الاحتجاج والتعبير عن غضبه من سياسة الإذلال والتهميش التي مارستها الأنظمة ضده. وفي حالاتٍ عربيةٍ قليلة، تحرك جزء من هذا الشارع في انتفاضاتٍ صغيرةٍ، سرعان ما كان يتم قمعها، قبل أن يتذوق معنى الحرية. فالشارع هو النزوع الأصيل إلى الحرية، أولا وأخيراً.
في اليمن، وعبر سنوات طويلة، طمس نظام علي عبد الله صالح هوية الشارع اليمني وتطلعاته، عبر آلته الإعلامية والحزبية الضخمة، واحتكر خيارات الشارع، وجعله معطىً مزيفاً للحشد القطيعي في فعالياته السياسية لصالح النظام. وعندما انطلقت الثورة اليمنية، كان أول متغير مهم، في رأيي، هو استعادة الشارع وظيفته الحيوية، كواجهة للحرية، والخلاص من نير القمع والاستبداد. وذابت في هذه الواجهة كل القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة، وكذلك الأفراد الذين أشعلوا الثورة في تظاهرات عارمة في الميادين والساحات الثورية؛ وكان الشارع، في صورته الأولى وزخمه، وطنياً في مطلبه العادل بإسقاط النظام، وعلى الرغم من تناقضات القوى السياسية التي برزت فيما بعد، في فهم هذا المطلب، فقد كان هناك إجماع في الرغبة بالتغيير ورفض العنف والاقتتال الأهلي؛ هذا المنجز هو ما استبسل الشارع الكلي، والوطني، في الحفاظ عليه طوال عام الثورة الأول تقريباً.
لم يمضِ عام على الثورة اليمنية، حتى بدأ تغيرٌ ما في وتيرة الشارع الوطني الجامع، وبرزت إلى الواجهة السياسية علامةً من علامات المرض والنكوص، تجزأ الشارع الوطني، الكبير والأليف، إلى شوارع أخرى أكثر ضيقاً وانعزالية واستعلائية، وخصومة مع فكرة الوطن والمواطن، فظهر الشارع الحزبي المنفعل الأعمى الذي لا يتحرك إلا بأوامر من قيادته الحزبية، ووفق مصالحها الضيقة، والشارع الطائفي الذي تسيره المرجعيات الدينية، ويبدو مسلوباً أمام أفكارها الماضوية. والشارع الشمالي المنشغل في خصومته، وحروبه المستمرة، والشارع الجنوبي الذي لا يحركه سوى خيارات قادته الجنوبيين في الخارج، ومزاجهم المتقلب.
هكذا أصبح الشارع اليمني، مرة أخرى، مسلوب الإرادة، لصالح قوى تتسلط عليه، ولديها القدرة على دغدغة عواطفه الرعوية والدينية والمناطقية والجهوية غير العاقلة، متحكمة فيها بالحشد الإعلامي في القنوات والوسائل الإعلامية، وعبر منابر الجوامع. وبدأ الشارع ينقسم على نفسه، ولم يعد عفوياً بل موجهاً، ولم يعد وطنياً في تطلعاته، ولا حساساً في تعاطيه مع القضايا التي تلامس صلب حياته اليومية، وحينما التفت النخب السياسية على الشارع، وفرضت المبادرة الخليجية، لم يقاوم الشارع هذه الانتهازية، بل أصبح تابعاً، أو لامبالياً تجاه الكوارث اليومية التي يتعرض لها.
فما الذي تغير في ذهنية الشارع اليمني، ومن سلب قدرته وخياراته في تشكيل مستقبل وطنه؟ من الذي صادر لسانه مرة أخرى، وجعله سلبياً ومغيباً؟ وما هي الدلائل التي تجعلنا نقبل طرحاً هكذا.
لم يصل الشارع اليمني إلى هذه الحالة من اللامبالاة، فجأة، ويغمض عينيه على الفداحة التي يعيشها ويصمت، بل كانت هناك تراكمات من الخيبات المتواصلة والمرارة التي تجرعها بعد الثورة، وجعلته يقتنع بأنه فقد القدرة على الفعل، وأن أحقيته في التغيير واتخاذ القرار صودرت لصالح النخب السياسية التوافقية، وما تراه مناسباً وفق أجندتها الخاصة، فلم يقاوم الشارع اليمني فكرة قيام 565 عضوا في مؤتمر الحوار بتقرير مصيره بالنيابة؛ واتفاقهم على تقسيم بلاده التي أصبحت، من دون أن يريد هذا الشارع الذي أشعل الثورة، تحت الوصاية الدولية.
استمر تغييب الشارع اليمني في الفترة الانتقالية، ووفق سياسة ممنهجة، وعادت صورته السلبية السابقة إلى ما قبل الثورة، وكان المحك الأخير في أن تعود له سلطته أن يثور على سياسة العقاب والتجويع، ويرفض الجرعة الاقتصادية التي أقرت، في أول أيام عيد الفطر، ورفعت الدعم عن المشتقات النفطية، وما سببته من ارتفاع في الأسعار، إلا أن ردة فعل الشارع لم ترقَ إلى أهمية الحدث، بل كانت متناقضة، ولا تعبر عن مصالحه الحيوية، ففي التظاهرات التي انطلقت في الرابع من أغسطس/آب الجاري، في مدن يمنية، لرفض الجرعة، لم يخرج الشارع اليمني، بكل أطيافه السياسية والاجتماعية، لم يخرج الفقراء والكادحون والمعدمون، ولا أحزاب اليسار الانتهازي، أو اليمين الرجعي، للانتصار لقضاياهم العادلة، كانت الأعداد القليلة غير المُسيسة توحي بالتدهور الذي وصلت إليه حالة الشارع اليمني الذي كان يعول عليه كثيراً.
هنا نسأل: هل قتلت النخب السياسية الشارع بأوهامها النرجسية، وأعادته إلى واقع ما قبل الثورة، ككيان مسلوب ضداً من إرادته، وجعلته من أدواتها التسلطية؟ أم تُرى، أصبح الخوف هاجساً يسكن الشارع اليمني، حتى أنه صار مستعداً لقبول أي واقع، عدا الخروج للتظاهر؟ لماذا فقد الشارع الإيمان بالتظاهر، أداة سلمية للتعبير عن الرفض؟ أم أن الشارع الطائفي والحزبي والمناطقي والجهوي غير الوطنيين الذين لا يلتقون أبداً أصبحوا اللافتة العريضة للمرحلة المقبلة، في غياب شارع وطني ومعارضة وطنية.
قٌتل الشارع اليمني، وأصبح بلا أنياب. ولكن، كيف نستطيع إحياءه من جديد؟ هذا هو السؤال الذي يمكن، بالإجابة عنه، إعادة القرار الوطني والزخم للشارع اليمني الذي يعد، في رأيي، أكثر ما نحتاجه، وأكثر من يمكنه صناعة فارق جوهري، كونه الجغرافية الوطنية الأكثر اتساعاً وتعبيراً عن آلام اليمنيين وأحلامهم.