19 أكتوبر 2019
تحرير الموصل ومعضلة إعادة إنتاج الإرهاب
أعلن الجيش والحكومة في العراق، أخيرا، تحرير الموصل وهزيمة "داعش"، باسترجاع جزء من الأراضي العراقية، فلت من سيادة الدولة في ظرف قياسي، وفي سياق سياسي وأمني لم تفكّ طلاسمه بعد. لكن استرجاع الدولة العراقية سيادتها على الموصل، عاصمة الإمارة الإرهابية السابقة في بلاد الرافدين، جاء في سياقٍ دوليٍّ مناوئ للإرهاب، حيث جمعت قضية محاربة الإرهاب الأضداد في منطقةٍ تعرف تعارضاً شديداً بين مختلف الفواعل المنخرطة في اللعبة الإقليمية، محلية ودولية. ومن ثم فإنجاز الجيش العراقي هو جزء من مجهود حربي إقليمي ودولي، ولا أحد يمكنه أن يدّعي الفضل وحده في دحر "داعش" في الموصل.
وإذا كان الإجماع على محاربة الإرهاب، بصرف النظر عن توظيفه لخدمة مآرب مختلفة بل ومتعارضة، هو الذي سمح للقوى المنخرطة في الحرب على "داعش" باسترجاع زمام الأمور، فإن هذا الإجماع يحجب الرؤية عن مسألتين في غاية من الأهمية.
أولهما: من المسؤول عما آلت إليه الأمور في العراق، وحتى في سورية، وعن تحولهما إلى معقلين للجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط. وهنا مكمن الخطر في المقاربة الأمنية-العسكرية للتعامل مع الإرهاب، ذلك أن استخدام القوة العسكرية في محاربة الإرهاب يعني أن السلطات السياسية فشلت، ليس فقط في الوقاية من هذه الظاهرة، بل وفي معالجتها معالجة سياسية، تقيها اللجوء إلى القوة العسكرية. فالصور الآتية من الموصل تقتضي ألا نتحدّث عن تحرير الموصل، وإنما ما تبقى منها. تحرير أي منطقةٍ يفقد معناه إن هي دُمّرت وقتل من قتل من أهلها وشرّد من شرد. هكذا يسمح الحسم العسكري لصالح الجيش العراقي والقوى المساندة له بحجب الرؤية عن جوهر الأمور، وعن طرح أسئلة موجعة لا يمكن للحسم العسكري الفصل فيها: كيف وصلت دول مركزية، مثل العراق وسورية، إلى ما وصلت إليه اليوم؟
ليس شططاً اعتبار الإرهاب خير حليف للأنظمة التسلطية في المنطقة، فهو لا يساهم فقط في
حجب الرؤية عن فشلها وقمعها، بل يجعل منها حليفاً لقوى إقليمية ودولية وسداً منيعاً (على مستوى المدركات) يقي المنطقة انتشار ظاهرة الإرهاب. وهنا تساؤل آخر: هل من مصلحة الأنظمة (سواء التي تحاربه على أراضيها أو التي تقف وراءه أو تستفيد منه وتتخذه ذريعة للتدخل في شؤون الغير خدمة لمآربها) استئصال الإرهاب؟ قيل إن الفيلسوف الألماني، فريديرك نيتشه، قال إن من يعيش من وجود عدو عليه أن يعمل على بقائه/ إبقائه على الحياة. والسبب واضح: إنْ مات العدو سيفقد مبرّر وجوده أو على الأقل مبرّر سياساته وتموقعاته. ومن ثم، فإن دولاً تقيم كل استراتيجياتها الإقليمية على محاربة الإرهاب، فإن اختفاءه سيطرح لها إشكالا أمنياً.
لذا، ليست المسألة في المشكلة (الأمنية)، وإنما في حدّتها، بمعنى أن الأطراف المعنية، إقليمياً ودولياً، تتفق، على الرغم من تعارض مصالحها، على نوع من الحد الأدنى لعدم الاستقرار والحد الأقصى للاستقرار: أي أن تكون الاضطرابات الإقليمية محدودةً، حتى لا تهدّد الأمن الإقليمي، بشكل يورّط المنطقة في معضلةٍ أمنيةٍ، تقود، في نهاية المطاف، إلى تعميم الصراع. وبالتالي التصعيد الشامل من جهة؛ وأن تكون مضطربةً بما فيه الكفاية، حتى تخلق شبكة من التحالفات، تسمح لمختلف الأطراف بمواصلة اللعبة السياسية التقليدية في المنطقة (تدخل في شؤون الغير، دعم عدم الاستقرار، استخدام ذريعة الإرهاب...).
هذه اللعبة السياسية التي تتخذ من الإرهاب وقوداً قذراً، لكن متجدّداً، أصحبت خطراً على حاضر المنطقة ومستقبلها، لأنها عملياً تعيد إنتاج الظروف السياسية والاجتماعية التي أوجدت الإرهاب، وتحول دون مواجهته بالأدوات غير العسكرية. إلى درجة أن محاربة الإرهاب، بغض النظر عن صحة ذلك من عدمه، أصبحت مصدراً أساسياً للشرعية السياسية في دول المنطقة.
كان الصراع، في الماضي، بين نوعين من الشرعية: الدينية والثورية. تقول بالأولى الدول
الملكية، فيما تقول الدول الجمهورية التقدّمية بالثانية، وإن كانت تعتمد على الإسلام السياسي أحد مصادر الشرعية وأدوات التلاعب بالعقول. لكن سرعان ما دخل الإسلام السياسي خط الشرعية السياسية، ليفسد القطبية الثنائية بطرحه، هو الآخر، شرعيةً سياسيةً، تنافس الشرعية القائمة على الإسلام الرسمي (الدينية- الأمنية) في الملكيات والجمهوريات. وفي مرحلةٍ لاحقة، مع استفحال العنف السياسي وانتشار الجماعات الإسلامية المسلحة، ظهرت فواعل محلية وعابرة للأوطان تنافس الدول، ملكية وجمهورية (أو حتى هجينة) في الاستخدام الشرعي للقوة، بل تمكّنت من سحبه منها، كما حدث في ليبيا والعراق وسورية.
تتمثل المسألة الثانية، والتي لا تقل تعقيداً، في أن سياسات دول المنطقة تحمل، في طياتها، بذور فشلها وشروط إعادة إنتاج السيرورات السياسية والاجتماعية التي تقود إلى إعادة بناء المشكلات والإشكاليات ذاتها؛ أي إعادة إنتاج العنف، بما في ذلك نسخته الأبشع، أي الإرهاب ومناوأته. إذن، حتى وإن قُذف "داعش" خارج الموصل، فإن أتباعه الحاليين أو المقبلين سينزلون في ديارٍ أخرى، يستوطنون في بؤر توتر أخرى، خصوصا أن المنطقة تعجّ بها. فهناك تضخم في بؤر التوتر، بفعل التدخلات المذهبية والسياسية. فضلاً عن ذلك، من غير الممكن أن تنجح الأنظمة في محاربة الإرهاب، لأنها جزء من المشكلة، فهي مسؤولة أيضاً عن ظهور الظاهرة واستفحالها بالحدة التي هي عليه اليوم.
وإذا كان الإجماع على محاربة الإرهاب، بصرف النظر عن توظيفه لخدمة مآرب مختلفة بل ومتعارضة، هو الذي سمح للقوى المنخرطة في الحرب على "داعش" باسترجاع زمام الأمور، فإن هذا الإجماع يحجب الرؤية عن مسألتين في غاية من الأهمية.
أولهما: من المسؤول عما آلت إليه الأمور في العراق، وحتى في سورية، وعن تحولهما إلى معقلين للجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط. وهنا مكمن الخطر في المقاربة الأمنية-العسكرية للتعامل مع الإرهاب، ذلك أن استخدام القوة العسكرية في محاربة الإرهاب يعني أن السلطات السياسية فشلت، ليس فقط في الوقاية من هذه الظاهرة، بل وفي معالجتها معالجة سياسية، تقيها اللجوء إلى القوة العسكرية. فالصور الآتية من الموصل تقتضي ألا نتحدّث عن تحرير الموصل، وإنما ما تبقى منها. تحرير أي منطقةٍ يفقد معناه إن هي دُمّرت وقتل من قتل من أهلها وشرّد من شرد. هكذا يسمح الحسم العسكري لصالح الجيش العراقي والقوى المساندة له بحجب الرؤية عن جوهر الأمور، وعن طرح أسئلة موجعة لا يمكن للحسم العسكري الفصل فيها: كيف وصلت دول مركزية، مثل العراق وسورية، إلى ما وصلت إليه اليوم؟
ليس شططاً اعتبار الإرهاب خير حليف للأنظمة التسلطية في المنطقة، فهو لا يساهم فقط في
لذا، ليست المسألة في المشكلة (الأمنية)، وإنما في حدّتها، بمعنى أن الأطراف المعنية، إقليمياً ودولياً، تتفق، على الرغم من تعارض مصالحها، على نوع من الحد الأدنى لعدم الاستقرار والحد الأقصى للاستقرار: أي أن تكون الاضطرابات الإقليمية محدودةً، حتى لا تهدّد الأمن الإقليمي، بشكل يورّط المنطقة في معضلةٍ أمنيةٍ، تقود، في نهاية المطاف، إلى تعميم الصراع. وبالتالي التصعيد الشامل من جهة؛ وأن تكون مضطربةً بما فيه الكفاية، حتى تخلق شبكة من التحالفات، تسمح لمختلف الأطراف بمواصلة اللعبة السياسية التقليدية في المنطقة (تدخل في شؤون الغير، دعم عدم الاستقرار، استخدام ذريعة الإرهاب...).
هذه اللعبة السياسية التي تتخذ من الإرهاب وقوداً قذراً، لكن متجدّداً، أصحبت خطراً على حاضر المنطقة ومستقبلها، لأنها عملياً تعيد إنتاج الظروف السياسية والاجتماعية التي أوجدت الإرهاب، وتحول دون مواجهته بالأدوات غير العسكرية. إلى درجة أن محاربة الإرهاب، بغض النظر عن صحة ذلك من عدمه، أصبحت مصدراً أساسياً للشرعية السياسية في دول المنطقة.
كان الصراع، في الماضي، بين نوعين من الشرعية: الدينية والثورية. تقول بالأولى الدول
تتمثل المسألة الثانية، والتي لا تقل تعقيداً، في أن سياسات دول المنطقة تحمل، في طياتها، بذور فشلها وشروط إعادة إنتاج السيرورات السياسية والاجتماعية التي تقود إلى إعادة بناء المشكلات والإشكاليات ذاتها؛ أي إعادة إنتاج العنف، بما في ذلك نسخته الأبشع، أي الإرهاب ومناوأته. إذن، حتى وإن قُذف "داعش" خارج الموصل، فإن أتباعه الحاليين أو المقبلين سينزلون في ديارٍ أخرى، يستوطنون في بؤر توتر أخرى، خصوصا أن المنطقة تعجّ بها. فهناك تضخم في بؤر التوتر، بفعل التدخلات المذهبية والسياسية. فضلاً عن ذلك، من غير الممكن أن تنجح الأنظمة في محاربة الإرهاب، لأنها جزء من المشكلة، فهي مسؤولة أيضاً عن ظهور الظاهرة واستفحالها بالحدة التي هي عليه اليوم.