خلَّف النظام الجزائري السابق مجموعة من المعضلات الاقتصادية وحضَّر للرئيس الجديد عبد المجيد تبون محيطاً اقتصادياً يعجّ بالمشاكل التي لا تعدّ ولا تحصى، وبالتالي سيتعيَّن على الرئيس الذي تولَّى زمام إدارة أمور البلاد منذ 13 ديسمبر/كانون الأول 2019 أن يقوم بحملة تنظيف شاملة للمخلَّفات والدمار الاقتصادي الذي ألحقته العصابة بالاقتصاد، وذلك إن التزم بالتغيير الايجابي فعلاً.
لقد استغلَّ النظام السابق كل ثانية من زمن ارتفاع أسعار النفط وتدفُّق الدولارات على خزينة الدولة وفعل ما بوسعه لتفريغها ورفع أرصدة المسؤولين الكبار في البنوك الأجنبية خارج الجزائر، وهكذا وضع كل من النهب وغياب الإصلاح الجذري رئيس البلاد الجديد أمام موقف لا يحسد عليه سيتطلَّب منه جهوداً جبّارة لإصلاح ما أفسده النظام السابق.
وسيجد رئيس الجزائر نفسه مضطرّاً إلى اتِّخاذ إجراءات وقرارات عاجلة لوقف التآكل السريع لاحتياطي الصرف الأجنبي الذي سيخلِّف هزّات ارتدادية ستدمِّر الاقتصاد في المدى القريب وتجبره على الركوع أمام خيار الاستدانة الخارجية. فالرقم الهزيل لاحتياطي الصرف الذي لا يتعدَّى الآن 70 مليار دولار لن يمكِّن الاقتصاد من الصمود لسنة واحدة أخرى، وبالتالي هل سيتمكَّن الرئيس الجديد من إيجاد بديل آخر غير الاقتراض من الخارج لتغطية طلبات الجزائريين، خاصة أنه لم يتبقَّ الكثير من الوقت على إطلاق صافرة نفاد احتياطي الصرف بعد أن بلغ 200 مليار دولار في شهر يونيو/حزيران 2012.
وهل سيتمكَّن الرئيس المنتخب يوم 12 ديسمبر/كانون الأول 2019 من إخماد نار الفساد ورسم نهاية للنهب والسلب تحت غطاء القروض من خلال فرض الشفافية والنزاهة على عملية الإقراض البنكي لأيّ شخص كائناً من كان. فقد كشفت ملفات المحاكمة أنّ قيمة القرض الذي تحصَّل عليه رجل الأعمال "أحمد معزوز" تُقدَّر بـ 113.5 مليار دينار أي ما يقارب مليار دولار، كما بلغ مجموع القروض التي تحصَّل عليها رجل الأعمال "علي حداد" 200 مليار دينار، أي ما يعادل 1.6 مليار دولار، وبالطبع تلك أرقام خيالية كان بإمكان النظام السابق تسخيرها لانتشال الكثير من الشباب من وطأة البطالة المجحفة على الأقل لإضفاء المصداقية على الشعارات الزائفة المنادية بدعم الشباب.
وينبغي على الرئيس الجديد للبلاد إيجاد الوصفة السحرية والعاجلة لإصلاح وتطوير المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تمكنها قيادة قاطرة النمو الاقتصادي خلال السنوات القادمة، وأثناء قيامه بذلك يجب عليه أن يحرص حرصاً شديداً على إلباس البيانات والإحصائيات المتعلقة بالاقتصاد الوطني حلة الشفافية والمصداقية، لأنّ الشعب قد اكتفى من الأرقام غير الواقعية والمنسوجة من وحي مخيِّلة تعبِّد طريق الفساد وتشجِّع تبذير المال العام، كتلك الإحصائيات الصادرة عن المديرة العامة للوكالة الوطنية لدعم تشغيل الشباب "لونساج" والتي تفيد بأنّ نسبة المؤسسات المصغرة الفاشلة والممولة من "لونساج" لا تتجاوز 9 في المائة وذلك من أجل سواد عيون انتخابات 12/12، في الوقت الذي يسرد فيه الواقع حكاية معاكسة تماماً.
لذلك يتوجَّب على الرئيس عبد المجيد تبون وضع حدّ للمهارة في صباغة المؤشرات الاقتصادية والتي لا تختلف عن مهارة صباغة المباني والأرصفة في المناسبات، وإن كان التطبيل باستخدام الأرقام المغلوطة يجعل من مشوار الإصلاح الاقتصادي طويلاً ومتعباً.
ومن أهم الملفات العاجلة التي ينبغي على الرئيس الجديد معالجتها أيضاً ملف تركيب " تصنيع" السيارات في الجزائر خاصة بعد أن تجاوزت الحكومة الحالية كثيراً من صلاحياتها كحكومة تصريف الأعمال، لأنّ غضّ البصر عن ذلك العبث سيؤدِّي إلى إعادة إنتاج نفس الأخطاء السابقة، حيث يتطلَّب هذا الملف إعادة النظر في الشروط التي تخضع لها هذه الصناعة كعملية منح الرخص للوكلاء وتسقيف واردات أجزاء التركيب عند 2 مليار دولار وهو مبلغ تمَّ استهلاكه في النصف الأول من سنة 2019، مما أدَّى إلى توقُّف مصانع التركيب وتسريح العمال وتأزيم الوضع الاقتصادي أكثر مما هو عليه.
كما آن الأوان للرئيس الجديد أن يحقِّق التنويع الاقتصادي في البلاد على أرض الواقع، وأن يجد البدائل المستقبلية الممكنة للتبعية النفطية كسبيل للخروج من الحلقة المفرغة التي لم ينجح الاقتصاد في الفكاك منها حتى الآن، وعليه اتِّخاذ الإجراءات اللازمة لبناء مناخ جاذب للاستثمارات المحلية والأجنبية لإحياء رأس المال الميت، وتمكين المستثمرين، سواءً كانوا أجانب أو محليين، من دخول السوق الجزائري بمشاريع جديدة والعمل فيها بكفاءة أكبر وبسلاسة أكثر.
كما ينبغي على الرئيس عبد المجيد تبون الحرص على تحقيق التوازن بين تراكم الثروة والتوزيع العادل لعوائدها حتى لا يحوك مؤامرة ضدّ نفسه، فالأوضاع المزرية التي آلت إليها البلاد وأحوال المواطنين لا تحتمل أن يتمّ تحقيق تراكم الثروة اليوم وإرجاء مسائل الفقر والمساواة إلى الغد الذي قد لا يأتي.
وعلى العموم، يجب على الرئيس الجديد العمل بجدية على تحسين الأوضاع الاقتصادية للبلاد والشعب، فقد أشارت أحدث النتائج الأساسية لاستطلاع الرأي الذي قام به الباروميتر العربي في الجزائر خلال الفترة الممتدة ما بين 30 يناير/كانون الثاني و18 فبراير/شباط 2019 إلى أنّ ما يقارب نصف المستجوبين أفادوا بأنّ الاقتصاد هو مشكلة البلاد الرئيسية، كما أفادت نسبة تكاد تكون مماثلة بأنّ الفساد ونوعية الخدمات العامة المقدمة للمواطنين هما التحدي الأكبر الذي يواجه البلاد وصانعي السياسات.
وقد أكَّدت نتائج الاستطلاع مرارة الواقع ولطَّخت حلاوة الخطابات السياسية، حيث أشار شخص واحد من كل 10 أشخاص مستجوبين إلى أنّ الحكومة تُحسن التعامل مع ملفات البطالة والتضخّم والحدّ من اللامساواة، بينما عبَّر الباقي عن سخطهم وتذمُّرهم وعدم رضاهم عن السياسات الحكومية المنتهجة إزاء تلك المعضلات القاصمة لظهر الشعب.
خلاصة القول إنّ الرئيس الجديد بحاجة إلى الكثير من المساعدة في اتِّخاذ القرارات الاقتصادية المصيرية الصائبة، وهذا ما يتطلَّب منه أولاً وقبل كل شيء تشكيل مجلس الخبراء الاقتصاديين، أو إعادة إحياء المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي وفق أسس وقواعد جديدة على اعتبار أنّ هذا الرئيس سيكون سيّد القرار وليس مجرَّد واجهة تتستَّر وراءها جهات تسيِّر وتتَّخذ القرار من وراء الستار.