ما حدث لجينتلوني بشكل عفوي هو رمز للالتباس واللااستقرار الذي يطبع المشهد السياسي الإيطالي، فقد كان الاستفتاء الدستوري، الذي نظم في البلاد في الرابع من ديسمبر/كانون الأول الحالي، شبيهاً بالانتخاب السياسي وتجديد الثقة في الحكومة. هكذا أوعز رينزي لخصومه السياسيين، حينما ربط نتيجة الاستفتاء بمصيره السياسي في الحكومة التي قادها منذ شتاء 2014.
لعل نقمة ارتفاع نسبة التصويت بـ "لا" في الاستفتاء الدستوري، كانت نعمة على جينتلوني بعدما اضطر صديقه رينزي إلى تقديم استقالته عقب فشله في إقناع الشعب بتمرير مجموعة من الإصلاحات الدستورية تركز على شكل المؤسسة التشريعية، ومركزية القرار في اتخاذ السياسات العمومية.
وتشيع تسمية جينتلوني رئيساً جديداً للوزراء وإعلانه عن تشكيل الحكومة بسرعة ارتياحاً داخلياً، إذ تمكنت إيطاليا من تجاوز أزمة سياسية بعد أسبوع من "زلزال الاستفتاء"، فيما لم يفوت رينزي فرصة الظهور السياسي في آخر لحظاته بمقر رئاسة الوزراء في قصر كيجي.
وبينما تقضي التقاليد بقرع رئيس الوزراء المغادر لجرس صغير وتسليمه لرئيس الوزراء الجديد، إلا أن رينزي أضاف إلى ذلك تقديم هدية عبارة عن "تريكو" (قطعة قماش منسوجة) كُتب عليها "أماتريتشي"، اسم المدينة التي دُمرت بسبب الزلزال الذي شهدته البلاد قبل أشهر.
وتكاد الحكومة الجديدة لجينتلوني أن تكون نسخة لحكومة رينزي، مع تبادل بعض المواقع. وقد ساعد هذا الأمر في الاحتفاظ بنفس التشكيلة الحكومية السابقة تقريباً، مع التخلي عن وزيرة التربية والبحث العلمي، ستيفانيا جيانيني عن حزب "الاختيار المدني" (الذي ألغيت لائحته في آخر لحظة من المفاوضات) وتعويضها بفاليريا فيديلي. وقد سهل هذه الأمر مهمة الإعلان عن التشكيلة الحكومية في وقت وجيز بفريق عمل وزاري كان رينزي قد اختاره سابقاً في حكومته، وهو ما يعطي الانطباع بأن التشكيلة الوزارية الجديدة عبارة عن حكومة "رينزي مكرر".
وتأتي سرعة تشكيل جينتلوني الحكومة الجديدة بسبب حالة الترقب المحلية والدولية التي هيمنت منذ ظهور نتائج الاستفتاء الدستوري. ولعل الشأن المحلي العنوان الأبرز لذلك، وقد جسدته هدية "تريكو أماتريتشي"، إذ إن العديد من القطاعات الحكومية أمامها تحدي إعادة إعمار المناطق المنكوبة بسبب الزلزال القوي الذي ضرب البلاد صيفاً، مع العلم بأن بلدة تولينتينو، الموطن الأصلي لعائلة جينتلوني، هي من البلدات المتضررة بالزلزال.
دولياً، لا يمكن فصل الإسراع في إنجاز التشكيلة الحكومية، في هذا التوقيت تحديداً، عن سياسة وأجندة مباحثات الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها قضايا المال والاقتصاد والهجرة، لا سيما بعدما عززت نتائج التصويت بـ"لا" على التعديلات الدستورية في إيطاليا المخاوف لدى دول الاتحاد من إمكانية حدوث أزمة جديدة داخله.
ولم يفوت رئيس الوزراء الإيطالي الجديد فرصة الحديث عن العلاقة المتميزة لبلده مع الاتحاد الأوروبي، وهو يلقي لائحة أسماء الوزراء الجدد في القصر الرئاسي أمام وسائل الإعلام. وحرص جينتلوني على التأكيد على أن "إيطاليا مؤسس وفاعل/ بطل في الاتحاد الأوروبي، وستناضل إيطاليا من أجل سياسات الهجرة المشتركة والسياسات الاقتصادية الموجهة أخيراً نحو التنمية، وهذا التزام شخصي قوي في الأشهر المقبلة كما أيضاً باقي الالتزامات الدولية الأخرى التي تشغل فيها إيطاليا دوراً أساسياً"، على حد وصفه.
وتنتظر الرجل الأول في قصر كيجي استحقاقات دولية هامة، فقد هيأ جينتلوني بلده (خلال فترة ممارسته لمهامه في وزارة الخارجية)، لتولي مقعد في مجلس الأمن الدولي مع مطلع العام المقبل. كما ستباشر إيطاليا في مستهل العام المقبل رئاسة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، فيما ستحتضن قمة لقادة المجموعة في جزيرة صقلية، وذلك خلال شهر مايو/ أيار المقبل.
ومن المفترض أن تنتهي ولاية الحكومة الجديدة في فبراير/شباط من 2018، تاريخ نهاية الولاية التشريعية الممتدة لخمس سنوات منذ 2013، غير أن هذا الأمر يبقى محكوماً بطبيعة التعاطي السياسي للأحزاب الممثلة في البرلمان مع الحكومة المعلنة. وفي أولى المؤشرات على إمكانية حدوث أزمة سياسية جديدة، عبرت "حركة خمسة نجوم" و"عصبة الشمال" عن سخطهما من الحكومة المشكلة، وأعلنتا عن عدم حضورهما جلسة تصويت منح الثقة في البرلمان، وأنهما ستعملان على تعبئة الشارع من أجل تنظيم انتخابات تشريعية مبكرة.
وبالتالي يواجه جينتلوني، الإعلامي الذي شغل منصب وزير الاتصال في حكومة برودي الثانية، والخارجية مع رينزي، وكلاهما لمدة قاربت العامين، تحدي استمرار حكومته الجديدة لأقل من عامين، وعدم رجوعه إلى مكتب رئيس الجمهورية كما كان سيفعل خطأً يوم الإثنين. ويبدو هذا الأمر تحدياً صعباً في بلد اعتاد تغيير حكومته بمعدل مرة كل عام، إذ شهدت إيطاليا 64 حكومة في 70 عاماً منذ 1946 (تاريخ إعلانها جمهورية ديمقراطية في استفتاء عام).