في صبيحة يوم من أيام اعتصام رابعة.. وبعد مذبحة الحرس الجمهوري.. جلسنا فى طرقات الاعتصام نسترجع أيام الثورة.. درات رحى الحديث بينا وتوقفنا عند سؤال:
- هل نحن فى ابتلاء أم عقاب؟ وهل تلك المذابح بمثابة (يوم بيوم محمد محمود).. وهل كانت المنصة نصيبنا من الدم الذي فاتنا فى حادثة مجلس الوزراء.. وهل ست البنات استُبدلت فأصابتنا دعاوى جهاد النكاح..
وكانت الفكرة التي تولدت ردا على هذه الأسئلة أن الأزمة لم تكن يومًا فى الشباب على اختلاف أفكارهم وتوجهاتهم..
دائمًا كانت المشكلة فى النخبة ممن تصدروا المشهد، سواء فى الغرف المغلقة أو أمام شاشات التلفزة، وكان الشباب هم المعنيين دائمًا بدفع تكاليف أخطاء قادتهم، حيث يدفعون بهم لإصلاح المشهد الذي أفسده أصحاب الحناجر الثورية ومواقف البروباغندا.
أذكر تلك الحادثة دائمًا، وأنا أشارك تلك النخبة العفنة في المنفى. أسمع أحاديثهم وأرقب خطواتهم. أشاهد خطبهم العنترية في المؤتمرات التي يُصرف عليها الملايين، من أجل لا شيء، حقًّا ولا مبالغة فى الأمر الناتج "لا شيء".
فقط تقارير لا قيمة لها لأصحاب الأموال من أهل الخير الذين يتألمون لمشهد الصامدين الصابرين فى شوارع المحروسة. فيدفعون بالأموال إلى قادتهم لدفع الحراك ولإرضاء ضميرهم تجاه قضايا الأمة الكبرى، وعلى رأسها القضية المصرية والسورية والفلسطينية.
أصبحنا فى دورة حياة طبيعية لمجموعة من المرائين. ممول يُرضي ضميره. يدفع الأموال لقيادات فقدوا حسهم الوطنى وواجبهم الديني. رغم أنه هو ما يتشدقون به صباح مساء. لتصرف على مؤتمرات وقنوات فضائية لا نفع منها ولا جدوى.
ولا عزاء للشباب المهدر دمه، المأسورة حريته، المطارد حلمه.
كل عبارات الآسى والأسف لا توفي المصاب حقه حين تسمع تصريحات نخبة المهجر ودفعهم لثورة عارمة لم يُعرف لها طريق ولا غاية.. يجنون أرباحها فى غرف فنادقهم ذات النجوم الخمس. هؤلاء لا تملك إلا أن تصمت عندما تراهم على شاشات التلفاز رافعين شعارات الصبر والصمود. والتبشير بانتصارات وهمية ليزجوا الشباب فى أتون المعركة. لسانهم يلهث بالثورة وجيوبهم تسأل المزيد.
صدق فيهم قول الغزالي "وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على محاسبة الأرذال، فكيف بمواجهة الملوك والحكام؟". غير أنهم ليسوا حتى بعلماء. قادة ميدانيين منحهم الماضي خبرات تحترم كحقائق تاريخية لا كأستاذية لواقع لا يعرفونه، وثبت فيه فشلهم مرة تلو مرة.
رسالتى لا أقصد بها شق الصف، أو إعلان العصيان، أو إيقاف حراك قوى وحقيقي ضد طواغيت الظلم الذين اغتصبوا قوت البلاد و قهروا العباد وسلبوا حريتهم واستباحوا حماهم وسرقوا أملهم الوحيد في ثورة تمهد الطريق لأحلامهم. لكن رسالتي أقصد بها أهلي وأصدقائي. فلا نصر لثورة قادتها ميتة ضمائرهم.
لاتصدقوا كل من خرج عليكم في شاشات التلفاز مادحًا حراككم ذامًّا فى عدو ثورتكم. لا عليكم به فى شيء. إن كان فيه خير لوجدتموه جواركم فى الميدان. أو رأيتم منه عملاً جادًّا حقيقيًّا خالصًا لوجه الله.
لا تتبعوا أصحاب بيزنس الثورات. ولا الذي يقتات على حلقة تلفزيونية يلهب بها حماس الثائرين. وكلما أجاد الثمثيل وبرع في حماسته كلما تنزلت عليه عروض القنوات الفضائية تترى.
لا تصدقوا من أوهمنا يومًا أننا على الطريق الصحيح. لا تصدقوا من أوهمنا أننا ضحية فحسب. نحن ضحاياهم قبل أن يفترسنا طواغيت العسكر.
لا تتعجبوا من تبدل المواقف واختلال ميزان القيم عند البعض ممن تلمع أسماؤهم. فالأمر فى أصله لم يكن مبدأ. لكن كانت الغلبة للمصلحة. رحم الله الإمام العز بن عبد السلام سلطان العلماء. حين خرج مهاجراً من بلاد الشام بعدما سجنه حاكمها لرأيه فيه عندما استقوى بالصليبيين على أخيه نجم الدين حاكم مصر.
(هاجر إلى مصر لا يملك من قوت الدنيا شيئًا. أكرمه نجم الدين حاكم مصر، وأحسن استقباله وأكرم نُزله. وما لبث أن رأى اعوجاجًا فى حكمه فقومه. وأمره ونهاه. ثم نادى ببيع أمراء المماليك فى سوق العبيد ليعودوا لأصلهم كرقيق قبل أن تجعلهم السلطة جبابرة. ثم اعتاقهم. حتى لا يحكم مملوك حُرًّا. لم يغلب مصلحته على الحق الذي يعرفه. كان عالماً قائدًا زاهدًا فى الدنيا) ..
أقول لرفاق الحلم الصعب. من أتوجه لهم بهذه الكلمات: كونوا على يقين أنكم أنتم القادة وأنتم الثورة. بداخلكم الوطن وعقولكم هي الخطة.
مواقفكم لا ترضخ لتفاهمات أو مواءمات لم تشاركوا فى كواليسها.
ارسموا حراككم وستبدعون كما أبدعتم سالفًا.
والتاريخ يسجل لكم نضالكم. ولمن تخلف عن الركب أو تاجر بقضيتكم نصيبه من الخزي والعار وفير.
*مصر