28 أكتوبر 2024
تأييد السيسي.. من تزييف الوعي إلى تزييف الإرادة
قبل نحو أربع سنوات، جاء عبد الفتاح السيسي إلى الحكم في مصر، وصحبت تفاصيل تنصيبه رئيسا انطلاق مدفعيات التبرير والتخويف معا، التخويف من انهيار الدولة، بوصفه حاميا ومنقذا، وراحت دوائر متعددة تمهد لتوليه الحكم، رجال أعمال، نخب إعلامية وسياسية تروّجه، تيارات ليبرالية ويسارية وإسلامية تمسك الدفوف، ولكل تيار منطقه ودوافعه، فالسيسي، عند اليساريين المؤيدين له، سيقف ضد الظلاميين، وسينشر التنوير، وسيهزم خصومهم من الرجعيين، كما أنه يحمل أفكارا تقدميةً ذات ملامح يسارية، بالإضافة إلى أنه يؤمن بالاستقلال الوطني، بل راح بعضهم يرى أنه في حالة تعارض مع الهيمنة الإمبريالية العالمية، وسيواجه أميركا، ودعم ذلك خطابٌ إعلاميٌّ ديماغوجي مكثف. وللأمانة، لم يتم ذكر إسرائيل فى تلك الدعاية، غير أن أغلب هذا النوع من اليسار الذي فقد بوصلته النضالية رأى في السيسي جمال عبد الناصر الجديد، الذي سيعلم، بحكم التجارب، أنه في مواجهة قوى السوق والإمبريالية، وسيواجه كتل رجال الأعمال من الرأسماليين المحتكرين. كما أنه لم يبخل أساتذةٌ للعلوم السياسية، وسياسيون ليبراليون، بالدعوة والدعاية، عبر التحليل الذي يبدو رزينا ومحكما وعلميا، فراح هؤلاء بالإدلاء بآرائهم عن عبقرية الحكم العسكري، وقدرته على الإنجاز، فلا مانع من تولي عسكري الحكم، ناهيك عن أساتذة التاريخ الذين نكشوا التاريخ، بحثا عن ديكتاتور عسكري طيب وخلوق وعادل. هكذا تخلى بعض المفكرين والسياسيين والكتاب عن أفكارهم السابقة بشأن المدنية والديمقراطية وأسس الاستبداد، وكان كثيرون من هؤلاء مناضلين سابقين ضد استبداد حسني مبارك.
لم يقتصر التبرير على المفكرين والصحفيين والسياسيين بالطبع، فخلف مشهد التأييد مصالح اقتصادية ضخمة من رجال الأعمال، كانت ترى في النظام القادم مكانا لها، ومكاسب وفرصة لزيادة ثرواتها، ومساحيق لغسل سمعتها، وعودتها إلى العمل السياسي، والنفوذ الاقتصادي، وإزالة ما لحق بها من هجوم ثورة يناير عليها، واتهامهم بالتربّح واستغلال النفوذ، وهؤلاء هم الأصدق والأوضح في التوجه، فقد عملوا، منذ لحظة وثوب السيسي إلى الحكم، على تدعيمه، بوصف أن وجوده تمثيل لوجودهم. وأكد الواقع صحة رهان هؤلاء، فقد عادوا بواجهة اجتماعية أكثر حظا مما كانت أيام مبارك، واستطاعوا تجاوز صدمة ثورة يناير وآثارها من سجون ومحاكمات، بينما ضاعت أوهام النخب السياسية الإصلاحية بشأن السيسي، الليبرالية واليسارية، وأصبحت مبرّراتهم وآمالهم وطموحاتهم تدوسها أقدام السجان وقطار التقشف والتبعية تحت وقع المنح الخليجية أو القروض الخارجية.
وفي مشهدٍ يستحق التأمل، اجتمع مؤيدو السيسي من الكتل الليبرالية ورجال الأعمال مع الناصريين الذين وضعوا صورته بجوار صور عبد الناصر، صرف رجال الأعمال، وحسب شهادات معلنة، مئات الملايين في الدعاية لمرشحهم القادم. ووظفت أغلب الأحزاب، على تنوعها، كذراع لرجال الأعمال، الذين اعتبروها أفرعا لشركاتهم، يستخدمونها لترويج النظام الجديد. على سبيل المثال، وقف حزبا الوفد والمصريون الأحرار بقوة في هذا المشهد، واستخدموا وسائل الإعلام المملوكة لهم ولرجال أعمالهم، ووجدت الأحزاب التي تكونت من رديف الحزب الوطني الديمقراطي (حزب حسني مبارك ) لنفسها دورا في الدعاية. ولم يتخلف عن مشهد التطبيل والرقص سوى أحزاب وحركات سياسية قليلة، شهد بعضها انقساما بين تأييد السيسي أو حمدين صباحي، عندما تمت انتخاباتٌ في جو هستيري، قاطعتها أغلب الفئات الشبابية.
كان مشهد تأييد نظام يونيو واضحا، السلطة ونخبها الإعلامية والأمنية والسياسية يستخدمون آليات التبرير والترهيب والوعود الوردية أدوات سيطرةٍ وإذعان، ويجرم هذا الجمع الذي يمثل كتل المصالح أي اختلافٍ معها، وراح هذا التكتل يرمي كل من يخالف أعضاءه بتهم التحالف مع أعداء الوطن ضد الإرادة الشعبية، وراحت تلك الكتل تكمل صورة التأييد المطلق عبر حملاتٍ مثل "كمّل جميلك"، والتي تطالب السيسي بتولي الحكم.
بنى السيسي شعبيته في لحظة حراك 30 يونيو (2013) الجماهيري، عبر الدعاية المكثفة، ورغبة المصريين وآمالهم في التغيير، لكن هذه الشعبية انهارت مع تتابع القرارات المؤلمة والمهينة للشعب، والمحبطة لآماله، سواء فيما تعلق بالملف الاقتصادي من إجراءات التقشف وغلاء الأسعار وتخفيض الإنفاق الاجتماعي، أو فيما يتعلق بالسياسات الخارجية والتبعية لدول إقليمية والتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير. يراجع بعض المؤيدين موقفهم، لكنهم لا يجاهرون بالمعارضة اليوم خوفا من البطش، بينما يصرّ بعضهم على مواقفه، ولا يريد الاعتراف بخطأ تصوراته.
تبقى، في النهاية، كتلة صلبة، ستطالب الرئيس عبد الفتاح السيسي بالترشح مرة أخرى، وكان بعضها لا يرى ضرورة للانتخابات من الأساس، فاقترح تمديد فترة الرئاسة، إلا أن هذا المقترح لم يجد نصيبه من التحقق، لأسباب عديدة، محلية ودولية. وقد صاحبت الكتل الصلبة المصلحة في استمرار النظام بهذه التشكيلة تتكون من المستفيدين من النظام، وفي مقدمتهم كبار رجال الأعمال والمستثمرين، كبار رجال الدولة، وكل من تعرّض أو سيتعرّض لملاحقة إذا
رحل النظام، سواء من الفاسدين أو المحتكرين من لصوص القوت وناهبي الشعب. لذا ليس غريبا أن يذهب هؤلاء مدعمين بقوى أمنية وإعلامية بتدشين عدة حملاتٍ لتأييد السيسي ومطالبته بالترشح لفترة جديدة للحكم.
أبرز حملات التأييد حملة "عشان نبنيها"، يقف خلفها طيف متنوع من مؤيدي النظام، قيادات عسكرية سابقة من أحزاب حماة وطن، والفرسان، وقيادات أمنية من حزب مستقبل وطن وغيره من أحزاب النظام، مع قيادات نقابية استخدمها جهاز الامن سابقا للحشد لنظام حسني مبارك، مثل نقابة المعلمين وأغلب مكونات الاتحاد العام لعمال مصر، وقام هؤلاء بعدة تحركات، جمعوا فيها الباعة الجائلين لإيجاد مشهد بائس لتأييد النظام.
يجد متابع تلك الحملات أن هناك تضاربا بين أرقام استمارات التأييد التي تم جمعها في هذه الحملة وغيرها من الحملات الشبيهة، ويتضح أنها في حالة سباق لزيادة عدد استمارات التأييد، ولكن يتضح أنها لم تجد لها رواجا أو قبولا حقيقيا. ولا تستطيع القيام بفاعليات مصنوعة، يصرف للحاضرين فيها مساعدات مالية، على الرغم من أنه تم تعميم هذه الاستمارات في مصالح حكومية كثيرة، وفرضت على الموظفين، لتوقيعها في محاولات تزييف لإرادة العاملين تحت ضغوط الحاجة للعمل، حتى إن بعض من يرفض توقيعها يتعرّض للمحاسبة والعقاب والتحقيق. وهنا يختلف المشهد عن يونيو/ حزيران 2014، حيث كان يصنع التأييد بقوة الإعلام، ودفع اللحظة المرتبكة والحاجة للتغيير، وكانت فرصة النظام قبل أن يختبر أكبر، لكن اليوم مهمة صنع التأييد أصعب. لذا يصنع مشهد التأييد بقوة القهر والإذعان والإجبار المباشر وغير المباشر الذي يتخذ أحيانا بصور ناعمة، كالتبرير والترهيب متعدّد الأوجه.
لم يقتصر التبرير على المفكرين والصحفيين والسياسيين بالطبع، فخلف مشهد التأييد مصالح اقتصادية ضخمة من رجال الأعمال، كانت ترى في النظام القادم مكانا لها، ومكاسب وفرصة لزيادة ثرواتها، ومساحيق لغسل سمعتها، وعودتها إلى العمل السياسي، والنفوذ الاقتصادي، وإزالة ما لحق بها من هجوم ثورة يناير عليها، واتهامهم بالتربّح واستغلال النفوذ، وهؤلاء هم الأصدق والأوضح في التوجه، فقد عملوا، منذ لحظة وثوب السيسي إلى الحكم، على تدعيمه، بوصف أن وجوده تمثيل لوجودهم. وأكد الواقع صحة رهان هؤلاء، فقد عادوا بواجهة اجتماعية أكثر حظا مما كانت أيام مبارك، واستطاعوا تجاوز صدمة ثورة يناير وآثارها من سجون ومحاكمات، بينما ضاعت أوهام النخب السياسية الإصلاحية بشأن السيسي، الليبرالية واليسارية، وأصبحت مبرّراتهم وآمالهم وطموحاتهم تدوسها أقدام السجان وقطار التقشف والتبعية تحت وقع المنح الخليجية أو القروض الخارجية.
وفي مشهدٍ يستحق التأمل، اجتمع مؤيدو السيسي من الكتل الليبرالية ورجال الأعمال مع الناصريين الذين وضعوا صورته بجوار صور عبد الناصر، صرف رجال الأعمال، وحسب شهادات معلنة، مئات الملايين في الدعاية لمرشحهم القادم. ووظفت أغلب الأحزاب، على تنوعها، كذراع لرجال الأعمال، الذين اعتبروها أفرعا لشركاتهم، يستخدمونها لترويج النظام الجديد. على سبيل المثال، وقف حزبا الوفد والمصريون الأحرار بقوة في هذا المشهد، واستخدموا وسائل الإعلام المملوكة لهم ولرجال أعمالهم، ووجدت الأحزاب التي تكونت من رديف الحزب الوطني الديمقراطي (حزب حسني مبارك ) لنفسها دورا في الدعاية. ولم يتخلف عن مشهد التطبيل والرقص سوى أحزاب وحركات سياسية قليلة، شهد بعضها انقساما بين تأييد السيسي أو حمدين صباحي، عندما تمت انتخاباتٌ في جو هستيري، قاطعتها أغلب الفئات الشبابية.
كان مشهد تأييد نظام يونيو واضحا، السلطة ونخبها الإعلامية والأمنية والسياسية يستخدمون آليات التبرير والترهيب والوعود الوردية أدوات سيطرةٍ وإذعان، ويجرم هذا الجمع الذي يمثل كتل المصالح أي اختلافٍ معها، وراح هذا التكتل يرمي كل من يخالف أعضاءه بتهم التحالف مع أعداء الوطن ضد الإرادة الشعبية، وراحت تلك الكتل تكمل صورة التأييد المطلق عبر حملاتٍ مثل "كمّل جميلك"، والتي تطالب السيسي بتولي الحكم.
بنى السيسي شعبيته في لحظة حراك 30 يونيو (2013) الجماهيري، عبر الدعاية المكثفة، ورغبة المصريين وآمالهم في التغيير، لكن هذه الشعبية انهارت مع تتابع القرارات المؤلمة والمهينة للشعب، والمحبطة لآماله، سواء فيما تعلق بالملف الاقتصادي من إجراءات التقشف وغلاء الأسعار وتخفيض الإنفاق الاجتماعي، أو فيما يتعلق بالسياسات الخارجية والتبعية لدول إقليمية والتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير. يراجع بعض المؤيدين موقفهم، لكنهم لا يجاهرون بالمعارضة اليوم خوفا من البطش، بينما يصرّ بعضهم على مواقفه، ولا يريد الاعتراف بخطأ تصوراته.
تبقى، في النهاية، كتلة صلبة، ستطالب الرئيس عبد الفتاح السيسي بالترشح مرة أخرى، وكان بعضها لا يرى ضرورة للانتخابات من الأساس، فاقترح تمديد فترة الرئاسة، إلا أن هذا المقترح لم يجد نصيبه من التحقق، لأسباب عديدة، محلية ودولية. وقد صاحبت الكتل الصلبة المصلحة في استمرار النظام بهذه التشكيلة تتكون من المستفيدين من النظام، وفي مقدمتهم كبار رجال الأعمال والمستثمرين، كبار رجال الدولة، وكل من تعرّض أو سيتعرّض لملاحقة إذا
أبرز حملات التأييد حملة "عشان نبنيها"، يقف خلفها طيف متنوع من مؤيدي النظام، قيادات عسكرية سابقة من أحزاب حماة وطن، والفرسان، وقيادات أمنية من حزب مستقبل وطن وغيره من أحزاب النظام، مع قيادات نقابية استخدمها جهاز الامن سابقا للحشد لنظام حسني مبارك، مثل نقابة المعلمين وأغلب مكونات الاتحاد العام لعمال مصر، وقام هؤلاء بعدة تحركات، جمعوا فيها الباعة الجائلين لإيجاد مشهد بائس لتأييد النظام.
يجد متابع تلك الحملات أن هناك تضاربا بين أرقام استمارات التأييد التي تم جمعها في هذه الحملة وغيرها من الحملات الشبيهة، ويتضح أنها في حالة سباق لزيادة عدد استمارات التأييد، ولكن يتضح أنها لم تجد لها رواجا أو قبولا حقيقيا. ولا تستطيع القيام بفاعليات مصنوعة، يصرف للحاضرين فيها مساعدات مالية، على الرغم من أنه تم تعميم هذه الاستمارات في مصالح حكومية كثيرة، وفرضت على الموظفين، لتوقيعها في محاولات تزييف لإرادة العاملين تحت ضغوط الحاجة للعمل، حتى إن بعض من يرفض توقيعها يتعرّض للمحاسبة والعقاب والتحقيق. وهنا يختلف المشهد عن يونيو/ حزيران 2014، حيث كان يصنع التأييد بقوة الإعلام، ودفع اللحظة المرتبكة والحاجة للتغيير، وكانت فرصة النظام قبل أن يختبر أكبر، لكن اليوم مهمة صنع التأييد أصعب. لذا يصنع مشهد التأييد بقوة القهر والإذعان والإجبار المباشر وغير المباشر الذي يتخذ أحيانا بصور ناعمة، كالتبرير والترهيب متعدّد الأوجه.