بيروت على حافة "السّكين"

22 سبتمبر 2014
بيروت على حافة "السّكين"
+ الخط -
على بعد كيلومترات، كل شيء يوحي بقدوم الكارثة. عنقود من الحروب بحجم جغرافيا الشرق الأوسط. لبنان عند تخوم النيران، بل هو موشك على الغليان والاحتراق. كل شيء يدلنا إلى المزيد من ضعف المناعة وفقدان التوازن. كأننا في اللحظات الأخيرة قبل السقوط، فالحوادث المتتالية تمنحنا يقين التشاؤم.

لكن هنا أيضاً، عند حاجز كسر الأمواج على خليج بيروت ومرفئها، في أرض المعارض (البيال)، تجري أمور أخرى، أشبه بفخامتها ودعتها ما قد نراه في مدن بعيدة مرفهة ومطمئنة. ذاك ما يوحي بمزيج من اللامبالاة والانفصام والمعاندة في آن واحد، إذ ماذا يعني أن تستضيف بيروت معرضاً فنياً، هو أشبه بسوق عالمية يشترك فيها أربعون غاليرياً ومؤسسة فنية من أكثر من خمسة عشر بلداً، مع مشاركة استثنائية من دول جنوب شرق آسيا هي "الحدث الأكثر أهمية"، بالنسبة إلى المنظّمين، إذ خُصِّص لها جناح خاص بفنونها، يتضمّن أعمالاً لـ21 فناناً من مختلف الأعمار والجنسيات، موزعة على تسع صالات عرض من سنغافورة وأندونيسيا والفيليبين وتايلندا وكوالالمبور وغيرها.

إننا نتحدث عن غاليريات وصالات عرض تنكّبتْ شحنَ لوحات وأعمال فنية باهظة، من شيكاغو وباريس وميونيخ وشانغهاي ولندن وبيونس آيريس وغيرها.. إلى بيروت، لعرضها وبيعها. أن تكون بيروت مدينة مؤهلة وسوقاً لبيع الأعمال الفنية، ذاك يشترط فيها على الأقل ازدهاراً وأمناً ورفاهية. هذا بالضبط ما لا توحيه اليوميات اللبنانية ولا أحوال عاصمتها.

تناقض المدينة

يوم الخميس الفائت، 19 أيلول/سبتمبر، اندفع أكثر من ثلاثة آلاف شخص نحو صالة المعرض الواسعة. ليلة افتتاح مخصصة للمدعوين فقط. مع ذلك بدا أن فيض الناس الآتين إليه أكبر مما قد يشهد كرنفال. لكن أيضاً بدا أن عدد اللوحات والمنحوتات والأعمال الفنية الأخرى هي كذلك بالآلاف، وقد نحتاج أسبوعاً كاملاً من الزيارات لنراها حقاً. بالإضافة إلى المفارقة "السياسية" التي يصنعها هذا الحدث، تظهر مفارقة "اجتماعية" يصوغها مشهد الافتتاح، إذ ليس هذا جمهور معرض الكتاب مثلاً، ولا يشبه خليط الناس في شوارع بيروت، التي يتزايد فيها منسوب الرثاثة والفوضى والإهمال. شيء من الأبهة والأناقة وعلامات بحبوحة أصيلة، شيء من "برجوازية" مكثفة وطاغية، كما لو أن مجتمعاً متوارياً ظهر فجأة بحضوره، مع رجحان واضح للحضور الأنثوي المتكلف. مجتمع المال والأعمال متداخلاً مع مجتمع الفن و"اقتصاده". هذا مشهد بيروتي يظن الواحد منا أنه آخر الشهقات ما قبل السقوط والحريق.

ليست مجرّد سكين..!

ليس لي من المعرض، بآلاف الأعمال المحتشدة فيه، سوى تلك القطعة المهيبة، الصغيرة والبسيطة، التي بالكاد تكون فناً، بالكاد تمكن ملاحظتها وهي معروضة داخل صندوق زجاجي: مجرد سكين، نصل معدني معقوف قليلاً ومقبض خشبي.

لم يفعل الفنان سوى أن عرضها مقطّعة. سكين تحولت إلى كسور متساوية، مصفوفة جنب بعضها البعض، كي تبقى على صورتها الأصلية. السكين هنا هي نفسها المذبوحة، هي الآن "الضحية".

بدا مشهدها، وكأن كل سكاكين العالم قد تم كسرها وتقطيعها فجأة. بدت وهي مستلقية وميتة داخل صندوقها الزجاجي أشبه بـ"مانيفستو" أمميّ، في لحظة نرى فيها أنفسنا، نحن شعوب الشرق الأوسط كلنا، تحت سطوة سكين ستحز رقابنا في أية لحظة.

لا شيء اليوم أقوى تعبيراً عن حاضرنا وحالنا من تلك السكين، التي يشهرها الملثم بزيه الأسود، وهو على وشك أن يقطع رأس ضحيته، في فيلم رديء الصورة، ينتشر عبر ملايين شاشات الكمبيوتر الشخصي. لا شيء يمكن أن نسميه "أيقونتنا" الثقافية والسياسية، رمزنا الذي يراه العالم هويتنا، سوى تلك السكين الطالعة من أعماق ذاكرتنا التاريخية المظلمة.

بغتة، في لمح البصر، يبدو الفن مرة أخرى صانعاً لواقع مغاير، وقادراً على انتشالنا من مأزقنا الوجودي. بكل بساطة، أتى الفنان و"قتل" أداة القتل. بدا ذلك في الوقت نفسه، ليس تجاهلاً للقاتل (الإنسان)، بل نفياً عملياً له. على مستوى آخر، جعل الفعل كسر السكين وتشقيفها، عملاً بنائياً ونحتياً، أي قابلاً للعرض بوصفه غرضاً فنياً، له قيمة جمالية في الشكل وفي الانطباع البصري وفي بعده الدرامي. هذه السكين الميتة، صورتها كبيان مباشر، ربما تليق ببيروت كي تشهرها في وجه خطاب الذبح. 

دلالات
المساهمون