بيرسا كوموتسي.. وصل ما انقطع بين مصر واليونان

12 نوفمبر 2018
(من الإسكندرية سنة 1936)
+ الخط -

عاش اليونانيون في مصر وبنوا مجتمعهم فيها منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى ستّينيات القرن الماضي. ومع كل هذه السنوات، كان وضعهم الاجتماعي والتجاري والثقافي يزداد غنىً، ما جعل المؤرّخين والروائيّين وصنّاع السينما شغوفين بتفاصيل حياة أكبر جالية أجنبية في مصر في ذلك الوقت، قبل الإيطالية والأرمنية ثمّ الإنكليزية والفرنسية.

بيرسا كوموتسي، الكاتبة والمترجِمة اليونانية والمصرية بالولادة والنشأة والانتماء، كانت من أفراد هذه الجالية، وقد صدرت لها سبعة أعمال روائية، وجميعها تدور أحداثها في مصر، وأبرز ما نُقل منها إلى العربية: "الضفّة الغربية من النيل" بترجمة محمد حمدي إبراهيم، و"في شوارع القاهرة، نزهة مع نجيب محفوظ" بترجمة خالد رؤوف. وقريباً، تصدُر روايتها "أصوات سكندرية" عن "دار صفصافة" بترجمة خالد رؤوف.

اختيار الكاتبة مصرَ وأجواءها الاجتماعية لتكون ثيمة أساسية في إنتاجها الروائي له مبرّراته؛ أهمُّها أنها عايشت مرحلة التحوُّل الكبرى في وضع الجالية اليونانية، بعد إقدام عبد الناصر على إلغاء الامتيازات الأجنبية وتمصير الشركات وإنهاء المحاكم المختلطة، وهو ما أصاب الجالية في مقتل.

في روايتها "الضفة الغربية من النيل"، تناولت كوموتسي بداية مرحلة الانهيار الأجنبي في مصر، من خلال قصّة حب بين يونانية من طبقة الأغنياء ممّن بنوا ثروتهم بسبب الاحتلال الأجنبي، وضابط شاب من جيل ثورة يوليو، حالت الظروف السياسية والفارق الطبقي بين ارتباطهما، كما تُضيء على الفوارق الطبقية الواسعة بين مجتمعَين متجاورَين في القاهرة: الأجانب في الزمالك والمصريّون في منطقة بولاق.

وفي "أصوات سكندرية"، تدور الأحداث في الإسكندرية، ضمن أجواء يونانية مصرية، بحسب مترجم العمل، خالد رؤوف، الذي يقول في حديث إلى "العربي الجديد": "تُعيد الرواية إحياء نهاية حقبة تاريخية هامّة ورمزية إلى حد بعيد؛ عصر ازدهار وانهيار تواجد اليونانيين في مصر خلال فترة ما بين الحربَين العالميّتَين. إنه عالمٌ أسطوري برّاق على السطح، لكنه غامض ومظلم من الداخل".

تهتمّ كوموتسي (الصورة)، بشكل خاص، بكشف غموض المدينة وإلقاء الضوء على ظلالها، موظّفةً في روايتها الجديدة عدداً من الشخصيات المتخيَّلة التي يرى رؤوف أنها تُذكّر بشخصيات يونانية حقيقية عاشت في المدينة آنذاك؛ مثل: كاليوبي باباستيفانو، وبنيلوبي ذلتا. كما تحضر فيها شخصية قسطنطين كفافيس (1863 - 1933) الذي يُعدّ رمزاً أدبياً للجالية اليونانية في مصر؛ حيثُ تعود المؤلفة إلى إسكندرية الثلاثينيات، مستحضرةً شارع ليبسوس الذي كان يسكن فيه.

عن أسباب اختياره ترجمة الرواية بعدما ترجَم "في شوارع القاهرة، نزهة مع نجيب محفوظ"، يقول: اشتغالي على ترجمة أعمال كوموتسي يرجع إلى كونها حالةً إنسانية وإبداعية خاصّة، فضلاً عن أنها مترجِمة نقلت من العربية إلى اليونانية قرابة أربعين عنواناً، من بينها جزء كبير من أعمال نجيب محفوظ"، مضيفاً: "ثمّة سبب آخر يتمثّل في كونها كاتبة يونانية مصرية عاشت وتعلّمت في مصر (تخرّجت من جامعة القاهرة)، وكلّ رواياتها تدور في مصر وأبطالها مصريّون. وروايتها هذه هي الأخيرة في سلسلة رواياتها المصرية اليونانية؛ إذ أن عملها المقبل سيكون بعيداً عن هذه الأجواء".

لا نجد هذا الاهتمام بحضور الجالية اليونانية في مصر داخل الأدب وحده، حيث انشغل بذلك أيضاً باحثون وأكاديميون يونانيون ومصريون؛ من بينهم ألكسندر كيتروف الذي يتحدّث في كتابه "اليونانيون في مصر من 1919 إلى1937: الإثنية والطبقة" عن وضع الجالية اليونانية في ظلّ الامتيازات التي حظي بها الأجانب، والتي بدأت مع تزايد أعداد الأوروبيّين في مصر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتضاعفت مع تشجيع الدولة العثمانية ومحمد علي الأجانب لزيادة أعمالهم الحرفية والتجارية، ما حمّس اليونانيّين على إنشاء غرف تجارية في القاهرة والإسكندرية.

يعتبر كيتروف أن إلغاء تلك الامتيازات كان أمراً حتمياً في سبيل استقلال الدولة المصرية، مضيفاً أن توجّه البلد إلى الاستقلال كان يؤثّر بشكل عكسي على وضع الأجانب بشكل عام واليونانيين بشكل خاص؛ ففي ثورة 1919، كان أحد المطالب هي إلغاء الامتيازات الممنوحة للأجانب على حساب المصريين. تحدّث كيتروف، أيضاً، عن انتشار الجالية اليونانية في أقاليم مصر، عكس باقي الجاليات التي كانت تفضّل البقاء في المركز. فإضافةً إلى القاهرة والإسكندرية، انتشر اليونانيّون في دمياط والمنصورة ومدن الدلتا والقناة وقراها.

وفي كتابها "مجتمعات اليهود واليونانيين في مصر قبل ناصر"، تطرّقت الباحثة نجاة عبد الحق للدور الاقتصادي للجالية اليونانية في القاهرة في الفترة بين 1885 و1960، والذي ارتبط ببداية الحقبة الكولونيالية في مصر. استعانت الكاتبة، في عملها، بمراجع من دار الكتب والوثائق وأعداد من مجلّة "الوقائع المصرية"، إلى جانب وثائق من وزارة التجارة والصناعة ومصلحة الشركات، لتقف على حجم النشاط التجاري الواسع والمتنوّع لليونانيّين في مصر.

أمّا الباحث سيد عشماوي، أستاذ التاريخ الحديث، فيرصد في كتابه "اليونانيّون في مصر: دراسة تاريخية في الدور الاقتصادي السياسي" دور اليونانيّين في تأسيس النقابات العمّالية في مصر وازدهار الحركة العمّالية وتطوُّر الحركة الشيوعية.

بعد نهاية التواجد اليوناني في مصر، والذي استمرّ طيلة قرن ونصف، هل حدثت قطيعة ثقافية ومعرفية بين البلدَين مع موجة الهجرات الكبرى في الستّينيات؟ يجيب المترجِم خالد رؤوف عن سؤال "العربي الجديد"، قائلاً: "لا يمكننا الحديث عن قطيعة، فالحضارة اليونانية القديمة لا تزال موجودةً في جامعات مصر على الأقل؛ حيث تنتشر أقسام الدراسات الكلاسيكية واللغة والحضارة اليونانية من الإسكندرية إلى الصعيد، إنتاجها ليس بالدرجة المطلوبة، كما أن عملها منصبّ على الحضارة واللغة اليونانية القديمة. أما اللغة والأدب الحديثان، فليس لهما مكان فيها".

وعن حجم ترجمة الأدب والفكر اليونانيَّين إلى العربية، يقول خالد رؤوف، الذي ترجم لعدد من الروائيّين والشعراء اليونانييّن، إنه لا يزال ضئيلاً بالمقارنة مع ما يُترجمَ من لغات أُخرى، مضيفاً: "ثمّة بعض الجهود المبذولة، إلّا أنها لا تزال ضعيفةً ويعوزها التنسيق".

المساهمون