"كان ذلك العصر الذهبيّ. أما اليوم فنحن في عصر لا أعرف كيف أصفه. ربما عصر القش"، هكذا قال الحج طه الفقيه (75 عاماً) حينما سألناه عن ذكرياته حول قريته بيت حنينا شمال القدس.
بيت حنينا القرية أصبحت اليوم بيت حنينا (الأحياء السكنية)، وما كان في الماضي القريب يمتد على مساحة أكثر من 15 ألف دونم، تغطيها كروم العنب والتين وأشجار المشمش الحنيني المورد والبرقوق والزيتون، أصبح اليوم أحياء سكنية متعددة يخترقها الجدار الفاصل والشّوارع الاستيطانية والمستوطنات.
ولا يعرف كثيرٌ ممن يسكن بيت حنينا اليوم عنها إلا غلاء الشقق السكنية فيها، ويغيب عنهم الكثير من تاريخها "الذهبي"، كما وصفه الفقيه. يذكر أن من رموز ذلك العصر الذهبي كانت "دار المعلمين الريفية" التي أنشئت في أربعينات القرن الماضي.
يتذكر المختار محمد عبد الحميد أسعد، أبو شوكت، المولود في العام 1927، اجتماع "رجالات بيت حنينا" لنقاش أمر بناء الكلية. وبحسب أبو شوكت، كان المبادر إلى فكرة إنشاء الكلية ابن بيت حنينا المعروف عبد الحميد شومان، الذي كان قد هاجر عام 1911 إلى أميركا، وعاد منها ليؤسس البنك العربي في القدس.
أبدى أهالي القرية حماستهم لفكرة شومان، وتبرعوا بـ150 دونماً من أراضيهم لصالحها. وكان الاختيار وقع على الأراضي الواقعة بالقرب من طريق القدس- رام الله التاريخي باعتباره طريقاً رئيسياً في ظاهر القرية تمر من خلاله السّيارات والحافلات.
يقول الحج أبو شوكت: "لا زلت أذكر أحد الرجال وقد أخرج من جيبه 500 دولار أميركي، وكان مبلغاً كبيراً في ذلك الحين، وتبرع به". أما من لم يسعفه حاله للتبرع بالأرض أو بالمال، فقد تبرع بجهده وعمله. وبفعل الجهود المتعاونة، والشعور بالمسؤولية تجاه الفكرة، تم الانتهاء من المبنى الرئيس خلال ستة أشهر. ويتذكر أبو شوكت، أن القرية استعانت بأحد أهالي قرية العيسوية المشهورين بالخبرة في البناء، وهو محمد أحمد العيساوي.
إلا أن الكلية وبفعل معارك عام 1948، وتحولها إلى ثكنة عسكرية للجيش الأردني، لم تفتح أبوابها إلا بعد استتباب الأمور في تشرين الأول من العام 1953، وقد سبق ذلك في العام 1951 بناء مبنى ثانٍ أضيف إلى مبنى الكلية الأساسي عُرف باسم "المنزل" وكان سكناً داخلياً للطلاب الوافدين.
كان اختصاص دار المعلمين الريفية إعداد المعلمين للتدريس، مع التّركيز على ما يحتاج إليه الريف الفلسطيني والأردني من تطوير وسائل الزراعة ورعاية الحيوانات. وقد كان يتبع دار المعلمين مدرسة ابتدائية من ستة صفوف تستخدم كمدرسة نموذجية تطبيقية.
يقول الحج طه الفقيه، الذي تخرج من الكلية في العام 1960، أنه بالإضافة إلى مسافات التربية وطرق التدريس وعلم النفس، كان تحت تصرف الدار أراضٍ زراعية وحدائق ومزرعة ومنجرة يطبق من خلالها الطلاب ما تعلموه.
ولم يكن دور الكلية تعليمياً فحسب، بل كان مجتمعياً يسعى إلى نشر الوعي والنهوض بالريف الفلسطيني. فقد كان على الطلاب أن يتجولوا في القرى القريبة ويطبقوا بعضاً مما تعلموه، فينظم بعضهم صفوفاً لمكافحة الأمية، أو ينظمون حملات لتطعيم الدواجن. يستذكر الحج طه بابتسامة دافئة: "لدي صورة وأنا أطعم الدجاج في قرية الجيب".
كان ينتسب لدار المعلمين الريفية طلاب من الكرك وعمان والسلط والطفيلة واربد، ونابلس والخليل. وقد كانت بعض الدول تبتعث طلابها للدراسة فيها، إذ يقول الحج طه إنه يتذكر طالبين صينيين وآخرين من الجزائر.
وكان لوجود طالبين جزائريين في فوج الحج طه الفقيه أثر في إثارة النقاش وتبادل الخبرات في ما يخصّ الثورة الجزائرية وأخبارها وأدواتها. يقول الحج الفقيه: "كنا أثناء تنقلاتنا في الحافلات ننشد مع الجزائريين "جزائرنا يا بلاد الجدود. نهضنا لنحطم عنك القيود. ففيك برغم العدا سنسود".
تنمية الريف
ولم تكن فكرة إنشاء دار المعلمين الريفية فكرة يتيمة منقطعة عن نيّة واضحة لتشجيع العلم وتنمية الريف المقدسي والمدينة، ومدينة القدس. فقد كانت لجنة المعارف الخيرية المحلية في بيت حنينا التي تتبع لها الدار تخطط لبناء جامعة.
ويذكر عبد الله دعيس، أحد الأعضاء الحاليين للجنة أن عبد الحميد شومان توجه عام 1956 إلى مجلس الوزراء الأردني لمطالبته باستملاك مساحات جديدة من الأراضي تبنى عليها الجامعة. واستجابة لهذا الطلب ضمّ 50 دونماً جديداً إلى أملاك لجنة المعارف في بيت حنينا بقرار من مجلس الوزراء الأردنيّ، وتم وقتها دفع تعويضات لأصحاب الأراضي. ولكن الحلم لم يتحقق "لأسباب سياسية".
وكمختلف قرى فلسطين، شاركت بيت حنينا في عمليات المقاومة ضدّ الانتداب البريطاني والمستوطنين اليهود. وقد كان ابن القرية شكري عبد الحق السكرتير الأول لعبد الرحيم الحج محمد القائد العام للثورة الكبرى 1936-1939.
ومن قصص بيت حنينا في المقاومة ما يذكره المختار أبو شوكت عن أول سائق حافلة في بيت حنينا واسمه محمد أحمد دولة. يقول أبو شوكت: "كان يسير في حافلته في بيت حنينا على الشّارع الرئيس بين القدس ورام الله، وأمامه اثنان من الجنود الإنجليز على دراجاتهم النّارية، وقد كان الثلاثة يتسابقون في ما بينهم، إلا أن محمد دولة قرر التأخر عنهم ليقوم بعدها بدهسمها".
وفي الأربعينات، كانت قد استعمرت بعض المجموعات اليهودية إلى الشّمال من بيت حنينا فيما يعرف اليوم بمستوطنتي عطاروت والنفيه يعقوب. وكانت القوات الإنجليزية تؤمّن مسير قافلة محملة بالمؤمن تتوجه كلّ يوم أربعاء لهاتين المستعمرتين قادمة من مستشفى هداسا في الجنوب. ويستذكر أبو شوكت قيام أهالي القرى القريبة من شارع القدس-رام الله باستهداف القافلة في مرات متفرقة.
قصص مشهورة
وفي قصة مشهورة، استهدف عدد من الشّبان هذه القافلة في بيت حنينا وقتلوا السّائق اليهودي "ينكل". "كان ينكل يقود الحافلة بيد وبيده الثّانية يحمل مسدسه ويخرجه من النافذة لترهيب الناس، وكان قد قتل عدداً من العرب". ومن غلّ أهالي القرية عليه وتعرضهم لبطشه قاموا بقطع أذنيه، ويذكر الحج الفقيه فرح القرية بقتله ورؤيته للأذنتين المقطوعتين.
يقول مصطفى مراد الدباغ في كتابه الشّهير "بلادنا فلسطين" إن أصل التسمية يعود إلى السّريانية وقد يعني إما "من يستحق الحنان" أو من "يٌعسكر"، ويرجح الدباغ المعنى الثاني، فتكون بيت حنينا "بيت المعسكرين". كما أن أهالي القرية يتداولون تفسيرات أخرى، منها أن سيدة مشهورة بالكرم باسم "حنينا" سكنت القرية في زمن بعيد.
وتعتبر المنطقة الغربية من القرية المسماة "حزّور" من أجمل أراضيها وهي غنيّة بعيون المياه كعين المزراب وعين العصافير وعين ملكة. إضافة إلى وجود آثار تاريخية من العهد الكنعاني وصولاً إلى الفترة الأموية في تلك المنطقة، قامت سلطات الاحتلال بتحويلها إلى محمية طبيعية، ومنعت أهالي القرية من الوصول إليها بالأسلاك الشائكة.
ويعرف عن القرية غناها بالمحاجر. يذكر المختار أبو شوكت، "وعر أبو هرماس" المشهور شمالي القرية، حيث توجد اليوم مستوطنة "عطاروت". ويقول أبو شوكت إن حجارة "بيت حنينا" عرفت بجودتها وتنوعها وألوانها كاللون الأحمر، ومنها أخذت الحجارة التي استخدمت في تصليح الدمار الذي أصاب المسجد الأقصى بعد زلزال عام 1927 الشّهير.