ما يشير إليه الدسوقي هو المنهج الذي سار على خطاه غران عبر جلّ أعماله؛ مخلخلاً أسطورة المركزية الأوروبية، ومحاولاً تقديم رؤية بديلة لتاريخ العالم. يقول الدسوقي: "غران مشغول في كتابه بالبحث عن علة لتفسير تاريخ العالم تخالف ما استقرت عليه الطروحات الغربية، وعلى هذا فكتابه ليس كتاباً في التاريخ بالمعنى التقليدي، إنما كتاب في فلسفة التاريخ".
المنصة التي جلس عليها الدسوقي مرافقاً غران، صاحبهما عليها أيضاً مترجمة الكتاب سحر توفيق، وأستاذ التاريخ في "جامعة القاهرة" أحمد الشربيني، وأخيراً مدير اللقاء أستاذ التاريخ المصري الحديث والمعاصر أحمد زكريا الشلق.
جذور الرأسمالية
الشلق افتتح كلمته بإطلالة سريعة على نتاج غران السابق، وقال إنه أقام في مصر ما بين عامي 1968 إلى 1973 مطّلعاً على وثائق "دار الكتب المصرية"، خصوصاً وثائق المحاكم الشرعية، ما ساعده في إصدار كتابه المهم "الجذور الإسلامية للرأسمالية: مصر 1760 - 1840" عام 1979، وقد ذهب فيه عبر دراسة أعمال الشيخ حسن العطار إلى أن مصر شهدت إرهاصات تحول رأسمالي عطّلتها حملة نابليون. يضيف الشلق أن "هذه الدراسات بدأت في السابق على يد أندريه ريمون، وتبعها آخرون كغران نفسه، والمؤرخة المصرية نيللي حنا وغيرهم".
يضيف كذلك: "جاء كتابه التالي الذي كان عنوانه "ما بعد المركزية الأوروبية" (1996)، مواصلاً فيه التنقيب عن رؤية جديدة لتاريخ العالم على خلاف ما صاغته الأطروحات الغربية، ومستعيناً فيه بأطروحات المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، ليناقش من خلالها فكرة التبعية والعلاقات الدولية ومفاهيم المركز والأطراف".
تحالف المال والسلطة
غير بعيد من ذلك يأتي الكتاب الحالي لغران، الذي يستثمر فيه أطروحاته السابقة عن تاريخ العالم، ليضيف إليها ما طوّره عبر تسميته "تاريخ أهل النفوذ". يقول غران إن كتابه "يركز على من لديه القوة في العالم، والقوة هنا بمعناها الجيوسياسي"، إذ يحاجج في كتابه بأن تاريخ العالم المكتوب ليس في الحقيقة إلا تاريخ صعود الأغنياء، ليس فقط في حدود أن "من يملك يحكم"، بل كذلك - وهذه من التماعات الكتاب - لأن هذا المال تحديداً في تجاوزه الحدود القُطرية للدول يشكل ما يشبه تعاضداً وتحالفاً بين أهل النفوذ في العالم، وفي قلبه العالم الثالث أيضاً.
من هنا يمكن فهم تلك الرغبة التي يبديها غران، لتفسير تاريخ العالم عبر علة واحدة كما أشار الدسوقي سابقاً، فإذا كان رأس المال متجاوزاً الحدود القُطرية للدول، فعلى هذا الأساس ينبغي وضع تفسيرات تتجاوز هي الأخرى حالة التقسيم الجغرافي لتبحث في أمور التعاضد الطبقي العابر للقوميات.
وعبر تلك النظرة الكلّية للعالم التي يطرحها كتاب "صعود أهل النفوذ"، أشار أحمد الشربيني إلى أن غران يرفض التفسيرات المتداولة لصعود العالم الغربي، إذ لا يرى في كتابه غرباً صاعداً وشرقاً راكداً: "ومن هنا انطلق كتابه من أزمة منهج وأزمة كتابة تاريخية".
صعود الأغنياء
يرى الشربيني أن غران قدّم كتابه عبر قسمين "يطرح في أولهما نقد المنهج في صعود الغرب، فيما يخصص قسمه الثاني لصعود أهل النفوذ، يتوسل لذلك بأمثلة عدة من مناطق مختلفة من العالم عبر مفاهيم الاقتصاد السياسي".
فيما رأت مترجمة الكتاب سحر توفيق أن كتاب غران شديد الصلة بالراهن المصري والعربي، حيث قدّم ما يشبه النبوءات عبر توكيده على الصلة بين ديكتاتوريات العالم الثالث والرأسمال المحلي والعالمي، وكذلك التوسّع في العمليات الإرهابية التي تبرز بمواجهة الديكتاتوريات، "وإن كانت لا تفوت الإشارة إلى أن النسخة الإنكليزية من هذا الكتاب صدرت في عام 2009، حيث الحديث هنا عن إرهاب القاعدة لا داعش الذي لم يكن ظهر بعد للوجود"، بحسب ما قالت توفيق.
من هنا يمكننا كذلك أن نفهم عنوان الطبعة العربية، والذي لم يأتِ موافقاً للأصل الإنكليزي الذي سيكون مقابله العربي حَرفياً "صعود الأغنياء"، إذ في هذا الراهن العربي والعالمي، حيث تتواشج الصلة أكثر فأكثر بين الأغنياء والديكتاتوريات، العسكرية منها والملكية، مضافاً إليهما نفوذ الإرهابيين، يصبح موفّقاً هذا العنوان الذي وضعته المترجمة لكتاب غران لوصف "صعود أهل النفوذ".