ما زالت حملة الاعتقالات الضخمة، التي تقوم بها السلطات السعودية، ضد أكاديميين وكتاب ومفكرين ورجال دين ومشاهير سعوديين، مقربين من تيار الإسلام السياسي، والتي بدأت الأحد الماضي، تتواصل بوتيرة متسارعة من قبل جهاز أمن الدولة، التابع مباشرة لولي العهد، محمد بن سلمان. واعتقلت السلطات السعودية على مدى ثلاثة أيام، كلاً من الداعية سلمان العودة، وعوض القرني، والدكتور مصطفى الحسن، والدكتور عبد العزيز بن عبد اللطيف، والداعية في الحرس الوطني السعودي، غرم البيشي، والأكاديمي محمد الهبدان، والمفكر السياسي التنويري، عبدالله المالكي، والإعلامي الإسلامي، فهد السنيدي، والمحلل الاقتصادي الشهير، عصام الزامل، وعضوات في هيئات التدريس في الجامعات السعودية، أبرزهن رقية المحارب ونوال العيد، وغيرهم.
وقالت مصادر حقوقية وسياسية سعودية إن عدد المعتقلين قد وصل حتى الآن إلى 150 معتقلاً، وهو مرشح للازدياد في ظل صدور أوامر بالقبض على محمد العريفي وصالح المغامسي ومحمد البراك. ولم تقتصر الاعتقالات على الإسلاميين السياسيين فحسب، بل شملت الأمير عبد العزيز بن فهد، ابن الملك الراحل فهد بن عبد العزيز آل سعود، والشاعر المقرب من النظام زياد بن حجاب بن نحيت، ابن أمير قبيلة حرب إحدى أكبر قبائل المملكة عدداً. كما اعتقلت السلطات المفكر الإسلامي، المقرب من الطائفة الشيعية، حسن فرحان المالكي، والذي سبق له أن أيّد السياسات السعودية ضد قطر. واعتقلت خالد العودة، شقيق الدكتور سلمان العودة، بسبب حديثه عن اعتقال شقيقه.
ويمكن تقسيم حملة الاعتقالات إلى ثلاثة أنماط: الأول، هو اعتقال أعضاء تيار الصحوة، وهو تيار فكري لا تنظيمي يجمع بين أفكار مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا، وبين أفكار محمد بن عبد الوهاب، الذي قامت على يده الدولة السعودية الأولى. والنمط الثاني هو اعتقال المحللين الاقتصاديين المعترضين على رؤية 2030، والتي تنص على فرض ضرائب باهظة على المواطنين السعوديين وخصخصة جزء من شركة "أرامكو" النفطية، التي تعد مصدر الدخل الأكبر للبلاد. والنمط الثالث، وهو العشوائي التأديبي، والذي طاول عبد العزيز بن فهد، نظراً لتغريداته المعارضة لولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، بالإضافة إلى الشاعر زياد بن نحيت الذي انتقد علناً الحملة الإعلامية على قطر، واصفاً إياها بالغير أخلاقية.
وتعود أسباب الاعتقالات التي مارستها السعودية للصفوف الأولى في تيار الصحوة، مثل عوض القرني وناصر العمر ومحمد الهبدان ويوسف الأحمد، والصفوف الثانية، مثل وليد الهويريني، إلى أن هذا التيار يعد الجبهة الشعبية الوحيدة المتماسكة في وجه أي قرار مستقبلي قد يتخذه بن سلمان، من قبيل فرض ضرائب أو رسوم، أو حتى نقل سلطات الحكم الرسمية له من والده. كما أن الكثير من أعضاء هذا التيار أكدوا على استقلاليتهم باتخاذهم موقف الحياد من أزمة قطر، وهو ما أغضب بن سلمان ورآه تحدياً لهيمنته على مفاصل البلاد. ويُعد تيار الصحوة تياراً مقرباً أيضاً من ولي العهد المعزول، محمد بن نايف، ووالده نايف بن عبد العزيز من قبله، إذ استفاد الأمير نايف وابنه من سيطرتهما على وزارة الداخلية طوال عقود لنسج شبكة علاقات كبيرة مع علماء هذا التيار، الذين صادموا الحكومة في فترة التسعينيات احتجاجاً على الفساد الإداري والمالي ودخول القوات الأميركية إلى الخليج لتحرير الكويت من غزو نظام الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين.
ودخل محمد بن سلمان في صدام قوي مع تيار الصحوة، للمرة الأولى، في إبريل/نيسان العام الماضي، عندما قرر تجميد عمل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الشرطة الدينية)، واعتقال الشيخ عبد العزيز الطريفي والمفكر الإسلامي إبراهيم السكران على خلفية نقدهما لسياساته. ومن المنتظر أن يؤدي قرار اعتقال الصفوف الأولى والثانية لهذا التيار، الذي وصف دوماً من قبل السلطات السعودية بأنه تيار معتدل وموالٍ، واستخدمته هي ذاتها في حربها الطويلة ضد تنظيمي "القاعدة" و"داعش"، إلى بروز صف ثالث من المتأثرين بالصحوة قد لا يتمتع بالمرونة نفسها التي يتمتع بها الرعيل الأول من هذا التيار، خصوصاً أنه يشعر أنه قد تعرض للطعن من الخلف نتيجة الاعتقالات الكبيرة وغير المسبوقة هذه المرة، ما يولد حركة احتجاجية ضخمة قد تهدد استقرار البلاد، خصوصاً إذا ما استغلها أمراء غاضبون من صعود بن سلمان السريع للسلطة.
ويأتي اعتقال المحلل الاقتصادي، عصام الزامل، الذي عمل مع الحكومة السعودية كممثل لها في عدة مؤتمرات على رأس وفود رسمية، آخرها مؤتمر اقتصادي في واشنطن، بسبب انتقاده لرؤية 2030 التي تستهدف تحويل البلاد نحو سياسة السوق المفتوح وسن إجراءات نيوليبرالية وتقشفية، بالإضافة إلى تصريحاته الشهيرة في تخطئته خطة بن سلمان لبيع "أرامكو" في الأسواق العالمية، والتي اضطر لاحقاً لحذفها عن حسابه في "تويتر" والتراجع عنها تحت وطأة التهديدات الحكومية. ووجهت السلطات عدة إنذارات أخرى لكتاب اقتصاديين، طالبتهم فيها بعدم التطرق لرؤية 2030، وإلا فإن مصيرهم سيكون مشابهاً لمصير الزامل.
وتنبئ الاعتقالات العشوائية، التي قام بها جهاز أمن الدولة التابع للديوان الملكي، للأمير عبدالعزيز بن فهد بسبب شتمه لحليف السعودية الرئيسي ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، وسفير الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة، بالإضافة إلى الشاعر زياد بن نحيت بعد رفضه للحملة الإعلامية على قطر، والمفكر حسن فرحان المالكي الذي عارض الحرب على اليمن، بأن بن سلمان على وشك إجراء تغيير سياسي أو اقتصادي مهم، ولا يريد سماع أية أصوات قد تشوش عليه هذا التغيير لدى الجماهير، خصوصاً أن سياساته صارت موضع تساؤل لدى الكثير من المواطنين السعوديين، في ظل تخبط واضح في حصار قطر، وفشل ذريع في الحرب مع اليمن مع ارتفاع عدد القتلى من الجنود السعوديين، بالإضافة إلى مشكلات اقتصادية ضخمة تعاني منها البلاد، مع وصول البطالة إلى مستويات عالية، وسخط كبير داخل الأسرة الحاكمة عليه بسبب صعوده السريع، وتجاوزه لأعمامه الأحق منه، وعلى رأسهم الأمير أحمد بن عبد العزيز.