10 ابريل 2019
بلير وصبرُ العراق
تُرى إلى متى كان سيصمت رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، عن "أسوأ جريمة في هذا القرن" في وصف نعوم تشومسكي غزو العراق. ومتى كان سيتحف الرأي العام العالمي باعتذاره المنمّق، لولا ضغط اللجنة التي يرأسها السير جون تشيلكوت منذ بداية التحقيق عام 2009، والتي تعرّضت، هي الأخرى، لعاصفة ضغوط من أسر الجنود الذين قضوا في حرب العراق، حيث اعتبروا أنّ قصور اللجنة وتأخرها خيانة وإهانة لأولئك الضحايا.
يبدو أنّ تأخير إعلان التقرير سيجرّ وراءه شكوكاً عديدة خطيرة، والتي في حال إثباتها ستؤدي إلى عواقب وخيمة، تقع على توني بلير. ومن أمثلة ما بدأ يظهر إلى العلن ما نشرته صحيفة "ذا ميل أون صنداي"، حيث ذكرت، في أحد تقاريرها، أنّ مذكرة تقع في 13 صفحة، كتبها المدعي العام، اللورد غولد سميث، قبل ثلاثة أسابيع من غزو العراق، ذكرت أنّ هذه الحرب قد تتعرض لطعن قانوني في القانون الدولي، لكنه طُلب لاحقاً من الشخصيات الرفيعة التي اطلعت عليها "حرقها" و"إتلافها"، بعد أن تم تداولها.
بنفي بلير إصداره أوامر بحرق هذه الوثيقة السرية، يتضح كم نحن موهومون في شفافية الغرب. وعلى الرغم من أنّ نتائج التقرير لم تظهر بعد، فإن إشاراتٍ كثيرة ترجع إلى النقطة التي استبدل فيها اللورد غولد سميث مذكرته بمذكرة جديدة بعد عشرة أيام قدّم فيها رأياً موجزاً، بالإشارة إلى أنّ إعلان الحرب أمر قانوني في ضوء القرارات النافذة، وتلك هي التي نوقشت في مجلس الوزراء، ومن ثم استخدمت في البرلمان لتبرير إعلان الحرب. وكان هذا قبل أن يقرّ اللورد غولد سميث في عام 2010 أنّه غيّر رأيه بشأن قانونية غزو العراق، ثم نفيه، هو الآخر، بأن يكون ذلك بسبب ضغوط تعرض لها من داوننغ ستريت.
تركض الحكومة البريطانية، الآن، في وحل التقارير والملفات، فقبل أن تفلت من مشكلة تقع في أكبر منها. أما الفضيحة الأخرى، والتي تدخل في باب السرقة الأدبية والأكاديمية، فهي الاتهام الموجّه لحكومة توني بلير، والذي قدّمت ملفاً على أنّه أحدث المعلومات الاستخباراتية، عن محاولات العراق المزعومة لإخفاء أسلحة الدمار الشامل. وتم ذلك بغرض كسب التأييد في بريطانيا لشن الحرب على العراق. وفي الحقيقة، تبيّن أنّ الملف منقول حرفياً وبأخطائه اللغوية، ومن دون الإشارة إليه مصدراً، عن ثلاث مقالات وبحث كتبه طالب دراسات عليا فلسطيني الأصل، تناول فيها الفترة التي سبقت حرب الخليج عام 1991.
بالإضافة إلى هذا الملف الذي يشكل إحراجاً كبيراً لحكومةٍ لا تزال تحاول تبرير شن حرب
على العراق، تتواصل لعنة المذكّرات والتقارير الرسمية الداعمة للغزو. ولا يزال قرار دعم غزو العراق يثير استياء في بريطانيا، وهو الذي قدمت فيه بريطانيا في عهد بلير رئيساً للحكومة، بين 1997 و2007، ثاني أكبر مساهمة بالقوات التي بقيت حتى 2011.
أما المذكّرة التي أُجبرت على كشفها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، من القضاء الأميركي، فقد كان قد كتبها وزير الخارجية الأميركي السابق، كولن باول، في 28 مارس/ آذار 2002 إلى الرئيس حينذاك، جورج بوش، قبل اجتماع بينه وبين بلير في مزرعة بوش في ولاية تكساس، وعد فيه بلير الولايات المتحدة بالمشاركة في الحرب على العراق قبل عام من الغزو الأميركي في 2003.
مع كل هذا المدّ المعلوماتي، فإن العبء التاريخي الذي ولّد تنظيم الدولة الإسلامية، لا يقع على بريطانيا والولايات المتحدة وحدهما، بحرصهما على رعاية طموحهما لتأسيس "شرق أوسط جديد"، وإنّما هناك جهات عراقية نافذة، استغلّت حماسة الدولتين للتخلص من صدام حسين. تلك الجهات هي التي زوّدت واشنطن بمعلومات خاطئة عن برامج صدّام لأسلحة الدمار الشامل وعلاقته بالإرهاب الدولي.
بلير الآن في قفص الاتهام الأخلاقي، وفقاً للمعايير الدولية، فلم يشفع له تعيينه مبعوثاً للجنة الرباعية الدولية الخاصة بالسلام في الشرق الأوسط، في يوم استقالته من رئاسة الوزراء في 27 يونيو/ حزيران 2007، بعد أن استقال من زعامة الحزب العمالي. كما لم تغفر له استقالته من المنصب نفسه، في أواخر مايو/ أيار من العام نفسه، حيث لم تنجح مهمته في تهدئة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لتحيزه الواضح لإسرائيل، كما لم تفلح مهمته في وقف نزيف ثلاث حروب في العراق وسورية واليمن.
تنظر الولايات المتحدة وبريطانيا إلى الثمن الباهظ الذي دفعتاه في العراق، متمثلاً في المواقف والضحايا الجنود، وهو ما سبّب ضغطاً كبيراً للجنة تشيلكوت والحكومة البريطانية. وفي المقابل، ليس هناك أي إشارة إلى أنّ الحكومتين وضعتا في حسابهما أي اعتبارات للشعب العراقي، فالاعتذار أو تحمل المسؤولية التي صنعت كل هذا الزخم الإعلامي ليست بسبب الندم على الحرب في العراق، ولكن بسبب المعلومات الخاطئة التي قادت إلى التدخل الذي تم بذاك الشكل. فالحرب في العراق التي تحدث بلير عن ضرورتها، أهلكت البلد، وأدت إلى بعثرة التركيبة العرقية والدينية المعقدة من الشيعة والعرب السنة والأكراد والمسيحيين والتركمان وغيرهم.
وما بين عراق صدّام حسين الذي قال عنه توني بلير: "نحن الذين أزحنا صدام، نتحمل بعض المسؤولية"، واعتذاره عن نتيجة تلك الإزاحة التي تسبّبت في ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، يواصل العراق صبره، على قول الشاعر العراقي عبد الرازق عبد الواحد: "صبرُ العــراق صبــورٌ أنت يـا جملُ، صبرُ العــراق وفي جنبيــه مخـرزه، يغـوصُ حــتى شـغافِ القلب ينسملُ".
يبدو أنّ تأخير إعلان التقرير سيجرّ وراءه شكوكاً عديدة خطيرة، والتي في حال إثباتها ستؤدي إلى عواقب وخيمة، تقع على توني بلير. ومن أمثلة ما بدأ يظهر إلى العلن ما نشرته صحيفة "ذا ميل أون صنداي"، حيث ذكرت، في أحد تقاريرها، أنّ مذكرة تقع في 13 صفحة، كتبها المدعي العام، اللورد غولد سميث، قبل ثلاثة أسابيع من غزو العراق، ذكرت أنّ هذه الحرب قد تتعرض لطعن قانوني في القانون الدولي، لكنه طُلب لاحقاً من الشخصيات الرفيعة التي اطلعت عليها "حرقها" و"إتلافها"، بعد أن تم تداولها.
بنفي بلير إصداره أوامر بحرق هذه الوثيقة السرية، يتضح كم نحن موهومون في شفافية الغرب. وعلى الرغم من أنّ نتائج التقرير لم تظهر بعد، فإن إشاراتٍ كثيرة ترجع إلى النقطة التي استبدل فيها اللورد غولد سميث مذكرته بمذكرة جديدة بعد عشرة أيام قدّم فيها رأياً موجزاً، بالإشارة إلى أنّ إعلان الحرب أمر قانوني في ضوء القرارات النافذة، وتلك هي التي نوقشت في مجلس الوزراء، ومن ثم استخدمت في البرلمان لتبرير إعلان الحرب. وكان هذا قبل أن يقرّ اللورد غولد سميث في عام 2010 أنّه غيّر رأيه بشأن قانونية غزو العراق، ثم نفيه، هو الآخر، بأن يكون ذلك بسبب ضغوط تعرض لها من داوننغ ستريت.
تركض الحكومة البريطانية، الآن، في وحل التقارير والملفات، فقبل أن تفلت من مشكلة تقع في أكبر منها. أما الفضيحة الأخرى، والتي تدخل في باب السرقة الأدبية والأكاديمية، فهي الاتهام الموجّه لحكومة توني بلير، والذي قدّمت ملفاً على أنّه أحدث المعلومات الاستخباراتية، عن محاولات العراق المزعومة لإخفاء أسلحة الدمار الشامل. وتم ذلك بغرض كسب التأييد في بريطانيا لشن الحرب على العراق. وفي الحقيقة، تبيّن أنّ الملف منقول حرفياً وبأخطائه اللغوية، ومن دون الإشارة إليه مصدراً، عن ثلاث مقالات وبحث كتبه طالب دراسات عليا فلسطيني الأصل، تناول فيها الفترة التي سبقت حرب الخليج عام 1991.
بالإضافة إلى هذا الملف الذي يشكل إحراجاً كبيراً لحكومةٍ لا تزال تحاول تبرير شن حرب
أما المذكّرة التي أُجبرت على كشفها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، من القضاء الأميركي، فقد كان قد كتبها وزير الخارجية الأميركي السابق، كولن باول، في 28 مارس/ آذار 2002 إلى الرئيس حينذاك، جورج بوش، قبل اجتماع بينه وبين بلير في مزرعة بوش في ولاية تكساس، وعد فيه بلير الولايات المتحدة بالمشاركة في الحرب على العراق قبل عام من الغزو الأميركي في 2003.
مع كل هذا المدّ المعلوماتي، فإن العبء التاريخي الذي ولّد تنظيم الدولة الإسلامية، لا يقع على بريطانيا والولايات المتحدة وحدهما، بحرصهما على رعاية طموحهما لتأسيس "شرق أوسط جديد"، وإنّما هناك جهات عراقية نافذة، استغلّت حماسة الدولتين للتخلص من صدام حسين. تلك الجهات هي التي زوّدت واشنطن بمعلومات خاطئة عن برامج صدّام لأسلحة الدمار الشامل وعلاقته بالإرهاب الدولي.
بلير الآن في قفص الاتهام الأخلاقي، وفقاً للمعايير الدولية، فلم يشفع له تعيينه مبعوثاً للجنة الرباعية الدولية الخاصة بالسلام في الشرق الأوسط، في يوم استقالته من رئاسة الوزراء في 27 يونيو/ حزيران 2007، بعد أن استقال من زعامة الحزب العمالي. كما لم تغفر له استقالته من المنصب نفسه، في أواخر مايو/ أيار من العام نفسه، حيث لم تنجح مهمته في تهدئة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لتحيزه الواضح لإسرائيل، كما لم تفلح مهمته في وقف نزيف ثلاث حروب في العراق وسورية واليمن.
تنظر الولايات المتحدة وبريطانيا إلى الثمن الباهظ الذي دفعتاه في العراق، متمثلاً في المواقف والضحايا الجنود، وهو ما سبّب ضغطاً كبيراً للجنة تشيلكوت والحكومة البريطانية. وفي المقابل، ليس هناك أي إشارة إلى أنّ الحكومتين وضعتا في حسابهما أي اعتبارات للشعب العراقي، فالاعتذار أو تحمل المسؤولية التي صنعت كل هذا الزخم الإعلامي ليست بسبب الندم على الحرب في العراق، ولكن بسبب المعلومات الخاطئة التي قادت إلى التدخل الذي تم بذاك الشكل. فالحرب في العراق التي تحدث بلير عن ضرورتها، أهلكت البلد، وأدت إلى بعثرة التركيبة العرقية والدينية المعقدة من الشيعة والعرب السنة والأكراد والمسيحيين والتركمان وغيرهم.
وما بين عراق صدّام حسين الذي قال عنه توني بلير: "نحن الذين أزحنا صدام، نتحمل بعض المسؤولية"، واعتذاره عن نتيجة تلك الإزاحة التي تسبّبت في ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، يواصل العراق صبره، على قول الشاعر العراقي عبد الرازق عبد الواحد: "صبرُ العــراق صبــورٌ أنت يـا جملُ، صبرُ العــراق وفي جنبيــه مخـرزه، يغـوصُ حــتى شـغافِ القلب ينسملُ".