02 نوفمبر 2024
بلفور المعادي لليهود
الحدث الحاسم في تاريخ فلسطين الحديث ليس إعلان بلفور (Balfour declaration) في حد ذاته، بل انتقال السيادة على فلسطين من الدولة العثمانية إلى بريطانيا. ولا يمكن فهم إعلان بلفور إلا في سياق هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وما تبعها من عقابيل، مثل اتفاقية سايكس - بيكو ومؤتمر سان ريمو. وقد تجسّدت هذه العقابيل كلها في صك الانتداب سنة 1922 الذي نصّ على تهيئة فلسطين، لتكون وطناً قومياً لليهود. وكانت صدرت تصريحات متناقضة آنذاك في شأن عبارة "وطن قومي" التي وردت في إعلان بلفور وفي صك الانتداب معاً، وحاول الكتاب الأبيض البريطاني لسنة 1922 التخفيف من وقع العبارة على العرب، فاحتال في الشرح، ليقول إن إعلان بلفور يرمي إلى إيجاد مركز يهودي في فلسطين. وهذا "المركز" صار دولة بعد ثلاثين سنة على صدور الإعلان، وبعد خمس وعشرين سنة على صدور صك الانتداب.
لم يكن اللورد آرثر جيمس بلفور أول مَن دعا إلى توطين اليهود في فلسطين، فقد سبقه الوزيران شافتسبري وبالمرستون. وقبل بلفور، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، ظهرت وعود كثيرة في هذا الشأن؛ فقد وعد لويد جورج في سنة 1904 يهود أوروبا بأوغندا لتكون موطناً لهم، وتدارس كثيرون الأمر، واقترحوا العريش في سيناء لتكون موطناً آخر لليهود. لكن وقوع فلسطين على تخوم طريق التجارة البحري إلى الهند (السويس) كان السبب المرجِّح لاختيارها ضحية المصالح البريطانية. وقد وصف اليهود إعلان بلفور بِـ "الوعد"، مثل وعد الله للنبي إبراهيم ونسله بإعطائهم أرض فلسطين، بحسب الرواية التوراتية. وقد قيّض لهذا الإعلان أن يصبح حجر الزاوية في المشروع الصهيوني. وقد تضافرت عناصر سياسية كثيرة، لتجعل المشروع الصهيوني حلقة مهمة في سلسلة المصالح الأوروبية التي أقضّت مضجعها المسألة اليهودية من جهة، وهاجس الإمساك بخطوط التجارة العالمية بين البحر الأبيض المتوسط والهند، بما في ذلك نفط شبه الجزيرة العربية من دون أي مزاحمة أو تهديد.
نشأت كراهية اليهود، أو معاداة السامية، في ألمانيا أولاً، وبالتحديد في الربع الأخير من القرن
التاسع عشر، من جرّاء تدفق اليهود من روسيا وبولندا إلى ألمانيا، وتشكُّل طبقة وسطى يهودية ربوية، راحت تنافس الطبقات الوسطى الأوروبية، وحُمِّل اليهود المسؤولية عن تدهور أوضاع تلك الطبقات النامية. وكانت المجتمعات الأوروبية في القرون الوسطى مجتمعات زراعية وتجارية، وفي هذه المجتمعات يتولى الغرباء والهامشيون والمنبوذون المهن "الوضيعة"، مثل الربا الذي حرّمته الكنيسة، وصار اليهود أسياد الإقراض. لكن، مع تحوُّل أوروبا إلى الرأسمالية الحديثة، ازدادت أهمية عمليات الإقراض والتمويل، وصار الربا (الفائدة) إحدى دعائم الاستثمار، ويدر ثروات كبيرة، الأمر الذي أثار غيظ المستثمرين الآخرين، أي المسيحيين، فعملوا على إزاحة اليهود من الأسواق. وهذا هو أحد أسباب نشوء معاداة السامية في العصر الحديث.
بلفور نفسه كان معادياً لليهود، وكثيرا ما هاجم اليهود المهاجرين إلى بريطانيا في أثناء توليه رئاسة الوزارة بين 1903 و1905، وقال عنهم إنهم لا يندمجون بالسكان، وأصدر تشريعاتٍ تحد من الهجرة اليهودية (قانون الغرباء). وكان يرى أن اليهود، كمجموعة عضوية، لا يمكنهم أن يحلّوا مشكلتهم من داخل التشكيل الحضاري الأوروبي بالاندماج في المجتمعات. أما الحل فهو يصبح ممكناً من خارج التشكيل الحضاري، أي بالاستعمار. وبلفور اسكتلندي مثقف، ومولع بالكتاب المقدس (العهد القديم أي التوراة، والعهد الجديد أي الأناجيل) ومحافظ سياسياً، وله عدد من المؤلفات مثل: "دفاع عن الشك الفلسفي" (1879)، و"أسس الاعتقاد الديني" (1893)، و"الإيمان بالله" (1923). ومهما يكن الأمر، فإن مسودة إعلان بلفور
بدأ إعدادها في يوليو/تموز 1917، وكتبها في البداية ناحوم سوكولوف بالتعاون مع مارك سايكس، وكانت الصيغة الأولى تنص على تأمين ملجأ لليهود في فلسطين. وقد نُقِّحت مراتٍ عدة إلى أن وصلت صيغتها النهائية في 31/10/1917 في صورة رسالةٍ من بلفور إلى ليونيل والتر دي روتشليد. وقد اعترض على ذلك الإعلان مجلس ممثلي اليهود البريطانيين والاتحاد الأنكلو- يهودي والوزير اليهودي إدوين مونتاغو الذي قاد حملة ضد "الوعد"، لأنه يُسقط حق المواطنة عن يهود بريطانيا، ويجعلهم مواطنين في دولة أخرى. ولهذا أُضيفت إلى النص الأصلي للإعلان العبارة التالية: "إن الإعلان لن يؤدي إلى الإخلال بالحقوق والأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أي دولة أخرى".
من غرائب التاريخ أن بريطانيا، وهي دولة مسيحية، احتلت بلداً مسلماً، أو ذا غالبية إسلامية، ثم منحته لليهود. ومن مظالم التاريخ أيضاً أن واحدةً من أقوى الأمم، أي بريطانيا، أقدمت على وعد جماعةٍ قليلة السكان، أي اليهود، بمنحهم بلداً يخص أمة ثالثة هو فلسطين. والفارق بين هتلر وبلفور، في هذا الميدان، أن بلفور لديه مستعمرات، ومنها فلسطين، فأرسل اليهود إليها للخلاص منهم. أما هتلر فلم تكن لديه مستعمراتٌ فتخلص منهم بالإبادة. أما الضحية الحقيقية لبلفور ولهتلر معاً فكان الفلسطينيين والعرب، وما زلنا ندفع ثمن ذلك منذ مائة سنة.
لم يكن اللورد آرثر جيمس بلفور أول مَن دعا إلى توطين اليهود في فلسطين، فقد سبقه الوزيران شافتسبري وبالمرستون. وقبل بلفور، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، ظهرت وعود كثيرة في هذا الشأن؛ فقد وعد لويد جورج في سنة 1904 يهود أوروبا بأوغندا لتكون موطناً لهم، وتدارس كثيرون الأمر، واقترحوا العريش في سيناء لتكون موطناً آخر لليهود. لكن وقوع فلسطين على تخوم طريق التجارة البحري إلى الهند (السويس) كان السبب المرجِّح لاختيارها ضحية المصالح البريطانية. وقد وصف اليهود إعلان بلفور بِـ "الوعد"، مثل وعد الله للنبي إبراهيم ونسله بإعطائهم أرض فلسطين، بحسب الرواية التوراتية. وقد قيّض لهذا الإعلان أن يصبح حجر الزاوية في المشروع الصهيوني. وقد تضافرت عناصر سياسية كثيرة، لتجعل المشروع الصهيوني حلقة مهمة في سلسلة المصالح الأوروبية التي أقضّت مضجعها المسألة اليهودية من جهة، وهاجس الإمساك بخطوط التجارة العالمية بين البحر الأبيض المتوسط والهند، بما في ذلك نفط شبه الجزيرة العربية من دون أي مزاحمة أو تهديد.
نشأت كراهية اليهود، أو معاداة السامية، في ألمانيا أولاً، وبالتحديد في الربع الأخير من القرن
بلفور نفسه كان معادياً لليهود، وكثيرا ما هاجم اليهود المهاجرين إلى بريطانيا في أثناء توليه رئاسة الوزارة بين 1903 و1905، وقال عنهم إنهم لا يندمجون بالسكان، وأصدر تشريعاتٍ تحد من الهجرة اليهودية (قانون الغرباء). وكان يرى أن اليهود، كمجموعة عضوية، لا يمكنهم أن يحلّوا مشكلتهم من داخل التشكيل الحضاري الأوروبي بالاندماج في المجتمعات. أما الحل فهو يصبح ممكناً من خارج التشكيل الحضاري، أي بالاستعمار. وبلفور اسكتلندي مثقف، ومولع بالكتاب المقدس (العهد القديم أي التوراة، والعهد الجديد أي الأناجيل) ومحافظ سياسياً، وله عدد من المؤلفات مثل: "دفاع عن الشك الفلسفي" (1879)، و"أسس الاعتقاد الديني" (1893)، و"الإيمان بالله" (1923). ومهما يكن الأمر، فإن مسودة إعلان بلفور
من غرائب التاريخ أن بريطانيا، وهي دولة مسيحية، احتلت بلداً مسلماً، أو ذا غالبية إسلامية، ثم منحته لليهود. ومن مظالم التاريخ أيضاً أن واحدةً من أقوى الأمم، أي بريطانيا، أقدمت على وعد جماعةٍ قليلة السكان، أي اليهود، بمنحهم بلداً يخص أمة ثالثة هو فلسطين. والفارق بين هتلر وبلفور، في هذا الميدان، أن بلفور لديه مستعمرات، ومنها فلسطين، فأرسل اليهود إليها للخلاص منهم. أما هتلر فلم تكن لديه مستعمراتٌ فتخلص منهم بالإبادة. أما الضحية الحقيقية لبلفور ولهتلر معاً فكان الفلسطينيين والعرب، وما زلنا ندفع ثمن ذلك منذ مائة سنة.