الفيدرالية في لبنان... البلد اليتيم بمستودع الأشياء العتيقة

04 اغسطس 2023

علم لبنان في احتجاج لأهالي ضحايا انفجار المرفأ في بيروت (4/8/2022/Getty)

+ الخط -

ظهرت فكرة تقسيم لبنان في أثناء الحرب الأهلية التي دامت من 1975 حتى 1990. وفي تلك الأثناء، ارتفع الكلام عن تصغير مساحة هذا البلد الصغير، ليُقتصر جغرافيًا على ما كان يُعرف بـِ"متصرفية جبل لبنان" ومدينة بيروت، أي أن يضم "لبنان الجديد" الموارنة والدروز والسُنّة وبعض الأرثوذوكس وكفى. ومتصرّفية جبل لبنان التي يتّخذها بعض المؤرخين الأيديولوجيين مستندًا تاريخيًا لظهور لبنان كيانا سياسيا، إنما كانت مجرّد ترتيب دولي لمعالجة الصراع الدامي بين الدروز والموارنة الذي اشتجر في عام 1840 ثم في عام 1860، تمامًا مثل متصرّفية القدس (أو سنجق القدس) التي أُلحقت أمنيًا وإداريًا بالباب العالي في إسطمبول (إسطنبول)، لكنها ظلت جزءًا من فلسطين. وعلى غرارها كانت متصرّفية جبل لبنان تابعة للباب العالي أمنيًا وسياسيًا، وهو الذي يعيّن حاكمًا لتلك المتصرّفية من الرعايا المسيحيين العثمانيين من غير سكّان جبل لبنان، على أن تبقى المتصرفية تابعة إداريًا وجغرافيًا لولاية دمشق. وفي أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، وجدت أفكار التقسيم والفيدرالية مسارب لها لدى بعض الجماعات اللبنانية، وبالتحديد لدى "مفكّري" "الجبهة اللبنانية" و"القوات اللبنانية" و"الرهبانية المارونية"، ولدى صُنّاع دعايتها الزائفة. لكن، مع التحوّلات المتسارعة للحرب الأهلية وانخراط الإسرائيليين في دروبها وتفصيلاتها، صاغ الأميركيون والإسرائيليون وعدًا لبشير الجميل، ولوالده بيار الجميل ومعه كميل شمعون، بأن يستعيد الموارنة مكانتهم التاريخية طائفة أولى في لبنان، عندما يتم القضاء على المقاومة الفلسطينية واليسار اللبناني. وهنا عاد الكلام عن مساحة لبنان البالغة 10452 كم2. ومع مقتل بشير الجميّل في سبتمبر/ أيلول 1982، عاد الكلام عن الفيدرالية، وراح يتدرّج في العلنية حتى صارت المجاهرة بها أمرًا معتادًا ولا تثير الخجل، وتندرج ذرائعيًا في سياق حرية التفكير وحرية القول.

تأسيس حزب للفيدرالية في لبنان، ثم حيازته الرخصة القانونية في سنة 2023، إنما هو التعبير الأكثر جلاءً عن فشل مشروع دولة لبنان الكبير الذي دشّنه الجنرال غورو في سنة 1920. والفيدرالية ترتفع اليوم جرّاء خوف المسيحيين، وغير المسيحيين، من صعود الشيعة في هيكلية الدولة اللبنانية المتأكلة، والسائرة بتسارع عجيب نحو الانحلال. والفيدرالية، كمفهوم قانوني أو سياسي أو تنظيمي، ليست، في الأساس، أمرًا سيئًا، وربما تتمكّن من تقديم ضمانة لبعض الأقليات التي ترغب في إدارة شؤونها بنفسها، وتريد، في الوقت نفسه، المشاركة السياسية في السلطة الاتحادية. هذا على المستوى النظري الخالص، لكن على المستوى التطبيقي، ثمّة مخاوف جمّة. فلبنان، في الأصل، دولة واحدة، ويريد دعاة الفيدرالية تحويله إلى اتحاد فيدرالي، على غرار العراق، فهل كانت وصفة الفيدرالية في العراق شافيةً من مشكلاته؟

الفيدرالية ترتفع اليوم جرّاء خوف المسيحيين، وغير المسيحيين، من صعود الشيعة في هيكلية الدولة اللبنانية المتأكلة

لنتذكّر أن ليبيا كانت دولة اتحادية (برقة وفزّان وطرابلس) ثم تحوّلت إلى دولة موحدة في سنة 1963. وأندونيسيا كانت دولة اتحادية، فصارت دولة واحدة، على الرغم من مشكلة سومطرة. والكاميرون كانت دولة اتحادية فصارت في عام 1972 دولة واحدة. وبهذا المعنى، ليس بالضرورة أن تكون الفيدرالية حلاً شافيًا لمشكلات لبنان التي لا شفاء منها البتة، بحسب اعتقادي.

القومية الطائفية والفيدرالية

ثمّة عَطَب تكويني في تشكيل الجماعات اللبنانية المتجاورة والمتنافرة، وفي طرائق تفكيرها وعيشها، وفي بنية النظام السياسي الذي تتعامل معه وفي نطاقه تلك الجماعات. ومنذ البدايات، كان من شبه المحال إنشاء وطن "لبناني"، فيما 70% من أبناء ذلك الوطن ضد إنشائه، أمثال أهالي بيروت والساحل وطرابلس وراشيا وبعلبك وبنت جبيل. وحتى أهالي جبل لبنان، كان معظمهم يريد حكمًا ذاتيًا في إطار الوحدة السورية، مع المحافظة على الامتيازات التي ورثها جبل لبنان من عهد المتصرّفية، لكن التيار الغالب لدى الموارنة آنذاك، ومع تيار وازن من الدروز، وبدعم كامل من فرنسا، عملا على تكبير مساحة جبل لبنان وفصله عن سورية. ولعل المجاعة التي ضربت جبل لبنان في سنة 1914 نبّهت البطريرك إلياس الحويك، سوري الأصل (من بلدة سرغايا)، إلى أهمية الحبوب وزراعتها وتصديرها، فسعى إلى ضمّ سهل البقاع وميناء بيروت إلى سنجق جبل لبنان، وهذا ما حصل.

واليوم تزدحم شاشات التلفزة اللبنانية وصفحات الجرائد وقاعات النوادي السياسية والمنتديات الثقافية بدعاياتٍ متدفقة عن الفيدرالية. ولا ينفكّ مروّجو تلك الدعايات يردّدون عبارات لا معنى لها عن أن لبنان بلد متعدّد الحضارات. وهذا هراء كامل، فلبنان بلد متعدّد الطوائف، لا متعدد القوميات أو متعدّد الحضارات أو متعدّد الثقافات، كما يزعم مروّجو الدعايات الزائفة والسقيمة. وفي سياق تزوير تاريخ لبنان الحديث، اخترع بعضهم فكرة "القومية اللبنانية"، أمثال شارل قرم ويوسف السودا وهكتور خلاط وألبير نقاش وشارل مالك، وتبعهم في هذه "الأطروحة" الفاسدة كثيرون من كمال يوسف الحاج وأمين ناجي (اسمه الأصلي أنطوان نجم) والأباتي بولس نعمان (سوري الأصل) والبروفيسور سليم عبو (سوري الأصل أيضًا). ويوسف السودا هو الأب الروحي لنزعة انفصال لبنان عن العرب، وكان عكف على صوْغ مفاهيم "القومية اللبنانية" المؤسّسة على الطائفية (على غرار الصهيونية التي خلطت الدين بالأفكار القومية). والقومية اللبنانية كما ظهرت على أيدي يوسف السودا وتوابعه إنما هي قناع للمصالح المارونية القديمة الصرفة، على غرار الكيان اللبناني الذي هو الناتج المباشر لتحالف الطائفية و"القومية الطائفية" والاستعمار الفرنسي. وعلى هذا المنوال، صار الولاء للطائفة المارونية متطابقًا مع الولاء للوطن الجديد، لأن الوطن الجديد، أي لبنان، هو، بحسب زعماء الرأي والسياسة والدين آنذاك، هو المحصّلة التاريخية للسعي الماروني نحو إقامة دولة خاصة بهم.

ثمّة عَطَب تكويني في تشكيل الجماعات اللبنانية المتجاورة والمتنافرة، وفي طرائق تفكيرها وعيشها، وفي بنية النظام السياسي الذي تتعامل معه وفي نطاقه تلك الجماعات

يقول المطران عبد الله الخوري، وهو الذي ترأس الوفد الماروني إلى مؤتمر الصلح في باريس في سنة 1919، إن لبنان أُنشئ بفضل فرنسا ليكون وطنًا للمسيحيين، وملجأ لجميع المسيحيين في البلاد المجاورة. لكن، بعد أقل من ثلاثين سنة على جلاء الفرنسيين عن هذا الكيان الجديد، اندلعت الحرب الأهلية المديدة (1975 - 1990)، وتخللت تلك الفترة صراعات دامية مثل ما جرى في سنوات 1958 و1962 و1969 و1973.

تقليص مساحة لبنان

بدأت فكرة تقليص مساحة لبنان مع عهد الرئيس الموالي لفرنسا إميل إدّة، حين قدّم اقتراحًا في هذا الشأن إلى المفوّض السامي الفرنسي هنري دو جوفنيل، ينصّ على إعادة مدينة طرابلس ومنطقة شمال لبنان، بما في ذلك عكّار، إلى سورية، لأن أغلبية سكّان تلك المنطقة من المسلمين والأرثوذكس، فيما يريد إميل إدّة الحفاظ على الطابع المسيحي الماروني للبنان. وكثيرًا ما كان يردّد أنه يريد لبنان أكبر من الصغير وأصغر من الكبير. ومهما يكن الأمر، فإن تيار تقليص مساحة لبنان تمثّل بالرئيس إميل إدّة (أصل عائلته من إزرع في حوران وهو نفسه مولود في دمشق) والبطريرك أنطوان عريضة الذي خلف البطريرك إلياس الحويك، والمطران أغناطيوس مبارك الذي اشتُهر بتأييده قيام دولة لليهود في فلسطين. وفي هذا الميدان، رفع إميل إدّة مذكّرة إلى نائب وزير خارجية فرنسا لدى زيارته باريس في سنة 1932 يطلب فيها فصل المناطق التي ضُمّت إلى لبنان عند إعلان "دولة لبنان الكبير" في سنة 1920 (بدر الحاج، الجذور التاريخية للمشروع الصهيوني في لبنان، دار مصباح الفكر، بيروت، 1982، ص 64). وذكر شكيب أرسلان في رسالة إلى شكري القوتلي أنه التقى هنري دو جوفينيل برفقة جورج لطف الله وإحسان الجابري، وبحثوا في مصير المناطق التي يريد سكّانها العودة إلى سورية، فأشار دو جوفينيل عليهم بضرورة التفاهم مع إميل إدّة. وبالفعل، حضر إميل إدّة والتقى الوفد السوري مرّتين، واتفق الجميع على "استرداد حاصبيا وراشيا وشرق البقاع وبعلبك وطرابلس وعكار" إلى سورية. ومع ذلك، كان شكيب أرسلان يرى ضرورة إبقاء جميع هذه المناطق في لبنان، لأن من شان ذلك "بقاء العنصر الإسلامي قويًا وأخلص من نفوذ الموارنة"، وأن أهون الشرّين، في رأيه، أيضًا، إبقاء بيروت وصيدا وصور ومرجعيون وغربي البقاع في لبنان كذلك (أنظر: المذكرات الحقيقية لسلطان باشا الأطرش، تحقيق ريم منصور الأطرش، دار أبعاد، بيروت، 2021، الجزء الأول، ص 99-104). أما الصحافي إلياس حرفوش، المقرّب جدّا من البطريرك أنطوان عريضة، فقد حثّ إلياهو إبشتاين (إيلات)، مدير الشؤون العربية في الوكالة اليهودية، حين التقاه في الولايات المتحدة في عام 1946، على إقناع الوكالة اليهودية بضرورة احتلال صيدا وصور وضمّهما مع محيطهما إلى الدولة اليهودية المرتقبة لضمان الهيمنة المسيحية على لبنان (أنظر: رؤوفين إرليخ، المتاهة اللبنانية (تعريب محمد بدير)، د.ن.، د.م.، 2017، ص 125).

اختفت فكرة تقليص مساحة لبنان بعد التسوية المشهورة بين السُنّة والموارنة في سنة 1943، بحيث يمكن اعتبار لبنان نفسه تسوية سياسية تضمّنت لبننة المسلمين فلا يطالبون بالوحدة مع سورية، وتعريب الموارنة فلا يطالبون ببقاء الاستعمار الفرنسي في لبنان. لكن، كان لا بد من حدث كبير لاعادة إحياء تلك الفكرة، وكانت الحرب الأهلية اللبنانية الحدث الذي أطلق أفكار التقسيم والفيدرالية وتصغير مساحة لبنان معًا. وكانت الاطلالة الأولى لهذه الأفكار مع الأباتي شربل قسيس، الرئيس العام للرهبنة اللبنانية المارونية، الذي أذاع في 4/1/1976، بعد زيارته البطريرك الماروني أنطونيوس خريش، نصّ الوثيقة التي صاغتها لجنة البحوث في جامعة الروح القدس (الكسليك) في 20/8/1975، والمتضمّنة الدعوة إلى تحويل لبنان دولة فيدرالية (راجع: صقر أبو فخر، حديث الفيدرالية والضمائر السعيدة في لبنان الحزين، صحيفة العربي الجديد، 22/7/2023). ثم قاد عملية ترويج لبنان الصغير فؤاد أفرام البستاني والمؤرّخ جواد بولس والسياسي إدوار حنين. وفؤاد أفرام البستاني (أصل عائلته من مدينة جبلة السورية) هو الذي كان يقول عنه كمال جنبلاط: "هيدا إلّي ما معو شهادة جامعية وعيّنوه رئيس الجامعة اللبنانية". أما إدوار حنين فلم يتورّع عن الإعلان في خلوة سيدة البير في قرية بقنايا (21/1/1977) أن "لبنان كلما كثر ترابُه كثرت مشكلاته"، ولهذا دعا إلى العودة إلى حدود متصرّفية جبل لبنان كما رُسمت في سنة 1861، أي لبنان من دون طرابلس وعكّار والهرمل وبعلبك وراشيا وحاصبيا ومرجعيون وصيدا وصور، لكن مع الإبقاء على بيروت ضمن الأراضي اللبنانية (الماركنتلية تحتاج الميناء). وقد أقرّت خلوة سيدة البير بإجماع الحاضرين كلهم فكرة الفيدرالية (راجع البيان الختامي والتوصيات في مجلة "العمل" الشهرية، العدد الأول، 1/3/1977، ص 112- 115). وكثيرًا ما كان إدوارد حنين يردّد: "إن لبنان في كل مرة يستقلّ كان يهتز، وفي كل مرّة تحميه حماية كان يعتز". وعلى غراره، طالب الأباتي بولس نعمان الذي خلف شربل قسيس في رئاسة الرهبانية المارونية بالكونفدرالية لا بالفيدرالية، وعلى أساس التوزّع الطائفي، لا على أساس الاقليم الجغرافي (راجع: بولس نعمان، المذكّرات، إعداد أنطوان سعد، دار سائر المشرق، بيروت، 2009، ص 142). وبولس نعمان سوري الأصل من آل الأصفر بحسب مذكّراته، وهو الذي منح "الحِلّة" (من الحِلّية أو الحلال أي أحلّه من ذنبه) لأسعد الشفتري من جريمة خنق أحد الفلسطينيين، وَوَعَدَهُ بأن "يُحلِّه" حتى 500 ضحية جديدة، ولم يكن يتورّع عن المجاهرة بأن "الدولة العبرية تشكّل ملاذًا أخيرًا يمكن اللجوء إليه إذا انهار الوضع وتهدّد الكيان اللبناني بالتفكّك" (بولس نعمان، المذكرات، مرجع سبق ذكره، ص 36).

لبنان، في الأصل، دولة واحدة، ويريد دعاة الفيدرالية تحويله إلى اتحاد فيدرالي، على غرار العراق

 

في مؤتمر لوزان في سنة 1948، ما عادت مسألة الفيدرالية مستورة البتّة، فقد تقدّمت "الجبهة اللبنانية" بصيغة حلّ فيدرالي للبنان وقّعها كميل شمعون وبيار الجميل بعنوان "جمهورية لبنان الفيدرالية". وفي 6/1/1990 نشرت صحيفة السفير مشروعًا للقوات اللبنانية، يدعو إلى دولة اتحادية. وفي 15/6/1994 نشرت "السفير" وثيقة للقوات اللبنانية تتبنّى فيها صيغة جيشين: واحد للمسلمين وواحد للمسيحيين، و16 محافظة مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وتبقى بيروت عاصمة اتحادية. وكانت هذه الأطروحات، على ما يبدو، تمهيدًا لا بد منه ليجد كُتّاب وسياسيون الشجاعة على تسويغ الفيدرالية والدعوة إليها، فقد دعا إلى الفيدرالية السياسي فايز قزّي الذي كان بعثيًا من أنصار ميشال عفلق، ثم مقربًا في أحد أشواط الحرب الأهلية اللبنانية من ياسر عرفات (أنظر: فايز قزي، لبنان يكون فيدراليًا أو لا يكون، صحيفة النهار، 13/2/2007). واليوم صار من غير الممكن إخفاء الطعام تحت السجادة، وها هم دعاة الفيدرالية يؤسّسون حزبًا شرعيًا لهذه الغاية هو "المؤتمر الدائم للفيدرالية" برئاسة ألفرد رياشي، ويُنشئون جمعية "اتحاديون" برئاسة جو عيسى الخوري. واستعاد أنطوان نجم صوته الذي كان خافتًا ليتمكّن من الدفاع عن التقسيم. وكان أنطوان نجم (أو أمين ناجي) قد دعا في عام 1979 إلى القطيعة بين المسلمين والمسيحيين في لبنان؛ قطيعة تبدأ بالفيدرالية ثم تتدرّج إلى الانفصال أي التقسيم (راجع: أمين ناجي، لن نعيش ذميين، دار آفاق مشرقية، بيروت، 1979). ومن الذين يسيرون خلف الركاب، ويرفعون راية الفيدرالية اليوم هشام أبو ناصيف وجورج جبر وآخرون.

الفيدرالية الملوّثة والوطن اليتيم

حين قَبِل المسلمون أخيرًا الدولة اللبنانية بعد ممانعةٍ طويلة، وباتوا يستمعون إلى أغاني صباح وفيروز ووديع الصافي، ويتذوّقون السودة النيئة (القصبة أو الكبد) والكروش والمصارين (الغمّة) بعدما كانوا ينفرون منها بطريقةٍ لا تخلو من الاستعلاء على أهل الجرود، وبعد أن اعترفوا بلبنان وطنًا نهائيًا لهم، في هذا الوقت بالذات، شرع بعض المسيحيين في رفع شعار الفيدرالية والتقسيم. ويلوح لي أن أبناء الجيل اللبناني الذي أشعل الحرب الأهلية، أمثال كميل شمعون وبيار الجميل وجول البستاني وشربل قسيس، ومعهم إدوار حنين وشارل مالك وفؤاد أفرام البستاني وشبان فاشيون من طراز بشير الجميل وداني شمعون وإتيان صقر وسعد حداد، قد ماتوا وشبعوا موتًا، غير أن الجيل اللبناني الجديد الذي لم يذق ويلات الحرب، لكنه سمع عنها، مستعدّ، يا للمفارقة العجيبة، لإشعال الحرب مجدّدًا، لكنه لا يجد دعمًا من أحد؛ لا من فرنسا ولا من الولايات المتحدة ولا حتى من إسرائيل. الفيدرالية في الحال اللبنانية هي الوصفة الناجعة اليوم لحروب أهلية لا تنتهي إلا بالتقسيم على غرار يوغوسلافيا. وهذا يبرهن، للمرّة الألف، أن لبنان ما عاد مهمًا لأحد، ولا أحد يهتم به وبمصيره، إلا إذا شكّل تهديدًا لإسرائيل، أو إذا بقي منصّة للإمساك ببعض الأمور في الشأن السوري، كالنازحين مثلاً أو المجموعات الإسلامية الإرهابية المحتمية ببعض الزواريب اللبنانية وبعض أحياء المخيمات الفلسطينية.