كان حزب التجمع اليمني للإصلاح (المؤلف من تحالف قبلي ــ إخواني ــ سلفي) الرقم الأقوى في المعادلة السياسية في البلاد حتى أشهر مضت، قبل أن يتلاشى على الرغم من كل مقومات القوة التي يمتلكها والتي لا تحظى بها أي قوة سياسية محسوبة على جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة.
آثر حزب الإصلاح التراجع بكل مكوناته العسكرية، سواء من خلال حضوره في الجيش اليمني أو مسلحيه التابعين لجامعة الإيمان، عن قتال مسلحي جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) في صنعاء، لأنه شعر بأنّ ميزان القوة العسكرية ليس في صالحه.
ومن بين الأسباب التي حكمت قراره أيضاً، اعتقاده أنّ هناك موجة إقليمية ودولية معادية لحركة الإخوان أكبر منه، سواء من دول الخليج بسبب قلقها من الربيع العربي، أو دولياً بسبب التقارب الغربي الأخير مع إيران على خلفية "مكافحة الإرهاب".
قرار الإصلاح الانحناء للعاصفة يبدو تكتيكياً وعملياً، لكنه في الواقع يعبّر عن أزمة داخلية بحكم محاباة الحزب للسلطة، فهو لم يكتف بموقف المتفرج للتوسع الحوثي بل تصرف أحياناً بـ"تواطؤ"، إذ دخل في وساطات لوقف القتال بين الحوثيين والقبائل، مثلما جرى في مديرية يريم بمحافظة إب. وساطة تصبّ لصالح الحوثيين لأنهم واجهوا مأزقاً حرجاً في محافظة إب عندما فتحت ضدهم أكثر من جبهة. وبالطبع، شعرت القبائل بالخديعة لأنه حسب الاتفاق كان يفترض أن ينسحب مسلحو الجماعة ليحل محلهم الحرس الجمهوري، لكن ما حدث كان الالتفاف على الاتفاق ودخل الحوثيون بغطاء من الحرس الجمهوري.
تراجع حزب الإصلاح يتعلق بطبيعة الأحزاب اليمنية التي ترتبط بالسلطة وتنتكس عند الابتعاد عنها مثل حالة حزب البعث العربي بعد خروج الرئيس عبد الرحمن الإرياني من الحكم عام 1974، ثم الحزب الناصري بعد مقتل الرئيس إبراهيم الحمدي عام 1977، وأخيراً الحزب الاشتراكي بعد هزيمته إثر حرب 1994.
حضور حزب الاصلاح في السلطة له علاقة بتقسيمات الحرب الباردة بين شطري اليمن قبل الوحدة في ثمانينيات القرن الماضي. كان الإصلاح شريك الرئيس في ذلك الحين علي عبد الله صالح في الشطر الشمالي باليمن لـ"محاربة الشيوعية وخطرها"، بينما كان الشيوعيون مضطهدين في الشطر الشمالي ويفرّون للجنوب.
لهذا كان للإخوان حضورهم القوي داخل المؤسسات التعليمية والأمنية والعسكرية. وكذلك في الحزب الوحيد وهو حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم، إذ كانوا رأس الحربة في مواجهة اليسار. وبعد الوحدة عام 1990 وإعلان التعددية الحزبية، تأسس حزب الإصلاح حسب اعترافات الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر بموجب اتفاق مع صالح ليرفع سقف المعارضة ضد الحزب الاشتراكي لأن الرئيس اليمني كان شريكهم بالوحدة.
أدى الحزب دوراً جوهرياً في هزيمة الحزب الإشتراكي في حرب 1994، لكن بعدما أصبحت جماعة الإخوان كياناً سياسياً مستقلاً، وإثر غياب شبح اليسار، بدأ صالح التخلص منهم للانفراد بالحكم. هكذا سعى للفوز والهيمنة في انتخابات مجلس النواب عام 1997 حتى ينفرد بتشكيل الحكومة، لكن اللافت أن الخلاف بين صالح والإصلاح ظل محصوراً بالإعلام وكوادر حزب الإصلاح، بينما ظلت القيادات في حالة ود حقيقي مع الرئيس اليمني، ولا سيما في ظل المصالح الاقتصادية المشتركة إضافة إلى الارتباطات القبلية.
لم يتغير الوضع وتتصاعد الأزمة السياسية إلا عندما بدأ سيناريو التوريث عام 2001، مما أغضب القائد القوي في الجيش علي محسن الأحمر وحلفاء صالح القبليين في الحزب مثل الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، إذ قاد نجله حميد حملة المعارضة ضد صالح في انتخابات الرئاسة عام 2006.
الملاحظ أن الحزب لم يدخل في صراع ضد صالح بسبب فساده وتدهور الاوضاع الاقتصادية، إذ لم يشارك الحزب في كل الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت الشارع اليمني بسبب غلاء الأسعار في أعوام 1992 و1997 و2003، بل بسبب مشروع التوريث الذي أزعج مراكز القوى المقربة من السلطة. أي أن الحزب يرتّب أولوياته بحسب قياداته، وليس حسب مصالح كوادره وتوجهاتها الأقرب لباقي أبناء الشعب اليمني.
حزب الإصلاح يتمتع بميزة قوية، وهي ارتباط كوادره بالمجتمع اليمني، بشكل يغاير معظم الحركات الاخوانية بحكم طبيعتها المغلقة وهيكلها التنظيمي الذي يحرص على بناء مجتمع داخلي مصغَّر ومنعزل. ويعود هذا الأمر إلى الطبيعة المحافظة للمجتمع اليمني المتسقة مع طبيعة الجماعات الدينية المحافظة اجتماعياً. وكذلك لأن الحزب لم يعانِ من اضطهاد دفعه للتقوقع على ذاته.
يُضاف إلى ذلك، طبيعة النسق الاجتماعي القوي والمتسع في اليمن، سواء من خلال القبيلة أو الأسرة الممتدة، مما يحافظ على روابط الكادر الإخواني بباقي المجتمع من دون أن ينعزل ضمن الأسرة الصغيرة – الإخوانية بالغالب. هكذا تظل رابطته الأسرية الأصلية قوية على الرغم من تكوين الأسر داخل جماعة الإخوان بهدف تقوية ولاء الافراد للجماعة بشكل إنساني وشخصي ليس فقط سياسياً.
إلا أنّ هذه الميزة الاجتماعية لم يستثمرها الحزب في التعامل مع أي حراك شعبي أو حتى التحرك في إطار أي تحرك شعبي من دون رغبة في الهيمنة، كما اتضح بقوة في ثورة عام 2011. يومها، اتجه الحزب للسيطرة على ساحة التغيير وإدارتها أمنياً، ولا سيما بعد انضمام اللواء علي محسن الأحمر للثورة. وسجل في حينه اعتداء جنوده على ناشطات في الساحة. كما أقام عناصر حزب الإصلاح "سجناً" كان يُلقى فيه من يخالفونهم.
هذه التصرفات نفّرت باقي العناصر الحزبية من حزب الإصلاح، إذ إن كثيرين يعتبرون أنه عوضاً عن التعويل على الحراك الشعبي لإسقاط النظام، قرّر استخدام هذا الحراك كورقة ضغط يتناسب مع مراكز القوى التقليدية المتحالفة معه، مثل علي محسن وآل الأحمر لكي يسقطوا صالح وأسرته، أي مشروع التوريث، وليس نظام صالح بكل مكوناته السياسية الفاسدة والتي تشكل قيادات حزب الإصلاح أحد مكوناتها.
بعد الثورة، استمر الحزب في نظرته للقوة كسلطة بما فيها من مال وسلاح وربما مشيخة وليس للشعب. ولم يكترث لسخط الجماهير بسبب تحيزه الواضح والصريح لمصالح هذه القيادات، فهو يدعو إلى عودة سلطة الدولة في محافظة صعدة، بينما يغض الطرف عن مسلحي آل الآحمر في بعض أحياء العاصمة، ويتحدث عن هيكلة الجيش وتوحيده لكنه يخشى المساس بنصيبه من الجيش الموالي لحليفه علي محسن.
وأكثر ما أضرّ به هو رفعه لسقف التوقعات الجماهيرية بحديثه عن محاربة الفساد، لكنه لم يفعل شيئاً بهذا الخصوص. كما لم يحقق الحزب أي خطوة حقيقية نحو العدالة الانتقالية بسبب مشاركته بحرب عام 1994 مثلاً.
يرتبط هذا الأمر بالطبيعة اللاديمقراطية لتنظيم حزب الإصلاح، إذ تحتكر قيادته مجموعة من السياسيين لم يتغيروا منذ تأسيسه عام 1990. كما لا يوجد تواصل طبيعي مع الكوادر التي تربّت على مفاهيم الولاء والطاعة وليس مجرد الالتزام الحزبي.
لذا فإن صعود الحوثيين هو نتاج طبيعي للمأزق الداخلي للحزب السلطوي في زمن متغير ضمن حراك شعبي واسع، إذ لم تستطع قياداته الانفتاح على كوادر حزبها فضلاً عن باقي القوى السياسية والشرائح الاجتماعية المختلفة، وظلت أسيرة نمط عملها التقليدي الذي لم ينظر للحراك الشعبي بل للصراع على السلطة.
وضمن هذا الصراع على السلطة، نجح الحوثيون في استثمار أخطاء حزب الإصلاح والتحالف مع أعدائه، خصوصاً الرئيس السابق علي عبد الله صالح. كما رَجَحت له كفة موازين القوى بسبب تغير الوضع الاقليمي، اضافة إلى طبيعة الحوثيين كقوة شابة صاعدة في مواجهة قوة تعاني من شيخوخة في القيادة والتفكير.