في أحد الأيام وبينما كنت أجلس وحيداً عند شاطئ صخري من شواطئ بيروت، اقتربت مني إحدى البصّارات، وطلبت مني أن تقوم بالتبصير لي، وكما هو معروف إن من الصعب التخلص منهن، وأنهن يستمرن بطلب ذلك منك حتى تيأس من محاولات الرفض وترضى بذلك، وربما يبدأن بذلك دون أن توافق إلى أن يسحبن منك ما يستطعن من نقود، وبما أنني شخصياً ضعيف في هذه المواقف وربما خجول، فكرت بأن لا أحاول التخلص منها بالطرق المعتادة. لذا وقبل أن تبدأ بسرد تنبؤاتها وأبدأ أنا بسرد الدولارات من جيبتي، قلت لها بأنني لا أحتاج لها لتخبرني عن مستقبلي، فأنا أعلم كل ما سيحدث لي في المستقبل حتى كيفية موتي، واقترحت عليها أن أخبرها بذلك بشرط إن اقتنعت بما سأقوله أن ترحل وتتركني وحدي وتبحث عن فريسة أخرى، فبدا بأن الأمر كان ممتعاً بالنسبة لها فوافقت على الفور.
أشعلت سيجارة ونظرت باتجاه البحر علّه يسعفني بسرد بعض الأخبار عن مستقبلي وأتخلص من تلك البصّارة، وبعد دقيقة صمت بدأتُ أخبرها:
في التاسعة والثلاثين من عمري سأموت، سيكون قد مضى على خروجي من السجن شهر تقريباً، في إحدى القرى البسيطة، سأكون جالساً على مصطبة اسمنتية أمام البيت الذي أقيم فيه مؤقتاً، والشيب غزا شعري ولحيتي، وعيناي تنظران إلى إصبع قدمي المتورم الظاهر من نعلي الأسود المغبّر، سأرفع رأسي إلى الأعلى لأنظر باتجاه امرأة تجر خلفها بقرة.
اقــرأ أيضاً
حينها ستحط على أنفي ذبابة، ستزعجني ورغم ذلك لن أبعدها، بل وكنوع من التحدي واللعب، سأغمض عيني وأشعر بالدغدغة التي تسببها، ستذكرني بتلك الدغدغة التي كنا نشعر بها صغاراً حين كنّا نمرر أطراف أصابعنا على باطن أقدام بعضنا البعض، سأبتسم حينها لتظهر أسناني الصفراء، وتتراءى في مخيلتي آلاف الابتسامات، هي كنزي الوحيد الذي حصدته في حياتي، ستتسع ابتسامتي أكثر وأكثر، آلاف الابتسامات سيغص بها قلبي ليتوقف عن العمل، وذلك سيكون في الساعة الثالثة وست عشرة دقيقة عصراً.
في التاسعة والثلاثين من عمري سأموت بسكتة قلبية، سيكون موتي بسيطاً ودون ضجيج. أمي المريضة التي سيكون قد مر على غيابي عنها عشر سنوات، ووالدي الذي يقضي آخر أيامه متابعاً عمله بخنق دموعه بالشتائم، وأخوتي الذين ينتشرون في أصقاع العالم، كل هؤلاء لن يعلموا بموتي.
سيقوم بعض الغرباء بدفني، وسيكتفون بوضع حجر دون اسم كشاهدة لقبري الترابي. في اليوم التالي ستمر تلك المرأة التي تجر بقرتها من نفس المكان وذات الوقت وكأن شيئاً لم يحدث.
في التاسعة والثلاثين من عمري سأموت وحيداً، وحيداً كآخر سن في فم عجوز.
وبعد سنوات ستعود روحي متجسدة بذبابة وتحطّ على أنف طفل يبول فوق ما تبقى من قبري، سأشعر حينها بدغدغة أنف الطفل على باطن قدمي فأتمادى وأبدأ بالتزحلق والركض على أنفه والدغدغة ستزيد وابتسامتي ستتسع، والطفل لن يغمض عينيه، لا ابتسامات يتذكرها، بل سيغمض كفه على جسدي لأموت.
في التاسعة والثلاثين من عمري سأموت في المرة الثانية وحيداً .. وحيداً كذبابة فوق أنف طفل.
أنهيت كلامي هذا والتفت إلى البصارة آملاً أن يكون كلامي قد أثر بها، فتفاجأت بها تنظر إلي بعينين دامعتين وبدون أن تنطق أي كلمة ربتت على كتفي ورحلت، لم أحاول أن أسألها أي شيء أو أن أوقفها فلقد كنت سعيداً بنصري هذا والتخلص منها والمحافظة على نقودي وبطريقة لطيفة.
ولكن بعد تلك الحادثة بأسابيع بدأت تلك البصارة تزورني في مناماتي بشكل شبه يومي، وتبدأ بسرد ما أخبرتها به في ذلك اليوم، وتبدأ النقود بالتدفق من جيوبي ومن جسدي ومن فمي كشلال، وأنا أحاول أن أجمعها لأقدمها لها، متوسلاً أن تتوقف عن الكلام. لكنها لا تتوقف إلى أن استيقظ وجسدي كله يخفق ذعراً.
أشعلت سيجارة ونظرت باتجاه البحر علّه يسعفني بسرد بعض الأخبار عن مستقبلي وأتخلص من تلك البصّارة، وبعد دقيقة صمت بدأتُ أخبرها:
في التاسعة والثلاثين من عمري سأموت، سيكون قد مضى على خروجي من السجن شهر تقريباً، في إحدى القرى البسيطة، سأكون جالساً على مصطبة اسمنتية أمام البيت الذي أقيم فيه مؤقتاً، والشيب غزا شعري ولحيتي، وعيناي تنظران إلى إصبع قدمي المتورم الظاهر من نعلي الأسود المغبّر، سأرفع رأسي إلى الأعلى لأنظر باتجاه امرأة تجر خلفها بقرة.
حينها ستحط على أنفي ذبابة، ستزعجني ورغم ذلك لن أبعدها، بل وكنوع من التحدي واللعب، سأغمض عيني وأشعر بالدغدغة التي تسببها، ستذكرني بتلك الدغدغة التي كنا نشعر بها صغاراً حين كنّا نمرر أطراف أصابعنا على باطن أقدام بعضنا البعض، سأبتسم حينها لتظهر أسناني الصفراء، وتتراءى في مخيلتي آلاف الابتسامات، هي كنزي الوحيد الذي حصدته في حياتي، ستتسع ابتسامتي أكثر وأكثر، آلاف الابتسامات سيغص بها قلبي ليتوقف عن العمل، وذلك سيكون في الساعة الثالثة وست عشرة دقيقة عصراً.
في التاسعة والثلاثين من عمري سأموت بسكتة قلبية، سيكون موتي بسيطاً ودون ضجيج. أمي المريضة التي سيكون قد مر على غيابي عنها عشر سنوات، ووالدي الذي يقضي آخر أيامه متابعاً عمله بخنق دموعه بالشتائم، وأخوتي الذين ينتشرون في أصقاع العالم، كل هؤلاء لن يعلموا بموتي.
سيقوم بعض الغرباء بدفني، وسيكتفون بوضع حجر دون اسم كشاهدة لقبري الترابي. في اليوم التالي ستمر تلك المرأة التي تجر بقرتها من نفس المكان وذات الوقت وكأن شيئاً لم يحدث.
في التاسعة والثلاثين من عمري سأموت وحيداً، وحيداً كآخر سن في فم عجوز.
وبعد سنوات ستعود روحي متجسدة بذبابة وتحطّ على أنف طفل يبول فوق ما تبقى من قبري، سأشعر حينها بدغدغة أنف الطفل على باطن قدمي فأتمادى وأبدأ بالتزحلق والركض على أنفه والدغدغة ستزيد وابتسامتي ستتسع، والطفل لن يغمض عينيه، لا ابتسامات يتذكرها، بل سيغمض كفه على جسدي لأموت.
في التاسعة والثلاثين من عمري سأموت في المرة الثانية وحيداً .. وحيداً كذبابة فوق أنف طفل.
أنهيت كلامي هذا والتفت إلى البصارة آملاً أن يكون كلامي قد أثر بها، فتفاجأت بها تنظر إلي بعينين دامعتين وبدون أن تنطق أي كلمة ربتت على كتفي ورحلت، لم أحاول أن أسألها أي شيء أو أن أوقفها فلقد كنت سعيداً بنصري هذا والتخلص منها والمحافظة على نقودي وبطريقة لطيفة.
ولكن بعد تلك الحادثة بأسابيع بدأت تلك البصارة تزورني في مناماتي بشكل شبه يومي، وتبدأ بسرد ما أخبرتها به في ذلك اليوم، وتبدأ النقود بالتدفق من جيوبي ومن جسدي ومن فمي كشلال، وأنا أحاول أن أجمعها لأقدمها لها، متوسلاً أن تتوقف عن الكلام. لكنها لا تتوقف إلى أن استيقظ وجسدي كله يخفق ذعراً.