برلمان تونس وسؤال الحكومة

15 أكتوبر 2019

هيئة الانتخابات في تونس تعلن نتائج الاقتراع (9/10/2019/الأناضول)

+ الخط -
وفق الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، فإن حوالي 59% من الجسم الانتخابي لم يذهبوا الى صناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم في البرلمان الثالث بعد الثورة. وفي التفصيل، 64% من النساء لم يمارسن حقهن في الانتخاب. و91 % من الشباب (بين 18 و25 سنة) عزفوا أيضا عن العملية الانتخابية، و67% ممن أعمارهم بين 26 و45 سنة نسجوا كذلك على هذا المنوال. والحصيلة إذن بالأرقام أن نحو مليونين ونصف المليون مارسوا فعلا عملية الانتخاب، ما يمثل ثلث الناخبين التونسيين.
السبب الأساسي لتشتت المشهد البرلماني الجديد والصادم وتشظيه ارتفاع النسبة المذكورة للعزوف، فقد بدا الشعب، في مجمله، غير مهتم بالشأن الانتخابي، مبديا تجاهلا ولا مبالاة بهذا الفعل المهم، ما أفضى إلى بروز لافت للمغامرين والشعبويين و"المهرّبين" في المشهد البرلماني الجديد في مقابل انحسار قاس للحداثيين والتقدميين والوسطيين واليساريين. ومعلوم، وبقياس الربح والخسارة، أحالت هذه التشريعيات أغلب الأحزاب التقليدية على التقاعد المبكر، كما غيبت أحزابا أخرى، على غرار مكونات الجبهة الشعبية، ونداء تونس، وآفاق تونس، ومشروع تونس، عن الساحة السياسية والاجتماعية، ما يصعب معه تعافي هذه التشكيلات واستئناف ظهورها في المستقبل المنظور. أما حركة النهضة، الفائز الأول بهذا الاستحقاق، فإنها لم تسلم، هي الأخرى، من تقلص حجمها الانتخابي عن العهدتين السابقتين (2011- 2014)، حيث لم تحرز سوى 52 مقعدا. يليها "قلب تونس" بـ 38 ثم "التيار الديمقراطي" بـ 22 مقعدا فائتلاف الكرامة (مفاجأة هذه الانتخابات) بـ 21 مقعدا، والحزب الدستوري الحر 
بـ 17 مقعدا، وحركة الشعب 16 وتحيا تونس 14 مقعدا. لتتوزع بقية المقاعد (33) بين قوائم مستقلة وأحزاب صغرى.
وواضح أن مجلس النواب التونسي الجديد لن يتميز بأغلبية فاعلة، تمكّنه من إنجاز مهمتها الأولى، تشكيل الحكومة الجديدة، وتمرير القوانين المتعلقة باستكمال الهيئات الدستورية، وفي مقدمتها المحكمة الدستورية التي يستوجب تركيزها أغلبية معزّزة لا تقل عن 145 نائبا. والسؤال الأبرز هنا: كيف ستحكم "النهضة" ومع من؟ ذلك أن دستور 2014 يخوّل للحزب الفائز تشكيل الحكومة، شريطة أن يظفر بأصوات 109 نواب على الأقل. ما يعني ضرورة أن تتمكّن "النهضة" من نسج تحالفاتٍ مع مكونات برلمانية أخرى، تمكّنها من ذلك. وهنا الصعوبة، فالحزب الثاني (قلب تونس) أعلن رسميا رفضه التحالف مع حركة النهضة، وكذلك كان موقف حزب حركة الشعب، الذي اختار الاصطفاف في المعارضة، على غرار حزب التيار الديمقراطي، فيما تمسّكت زعيمة الحزب الدستوري الحر، عبير موسى، بموقفها المبدئي الرافض للتحالف معها، ليلتحق بهم حزب تحيا تونس الذي يتزعمه رئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد، ما يعني أن الأغلبية العددية التي قد تشارك حركة النهضة، وأهمها ائتلاف الكرامة وبعض المستقلين لا تتجاوز 75 نائبا باحتساب مقاعد "النهضة".
وبالعودة إلى الفصل 89 من الدستور، تنطلق مراحل تشكيل الحكومة بتكليف رئيس الجمهورية في غضون أسبوعٍ من إعلان النتائج النهائية للانتخابات التشريعية مرشح الحزب الفائز بتأليف الحكومة، في غضون شهر يجدّد مرة واحدة، وإذا ما استحال ذلك يكلف رئيس الجمهورية الشخصية الأقدر التي يراها بتكوين الحكومة في أجل أقصاه شهر، فإن تعذر ذلك يقع حل 
البرلمان، وتتم الدعوة الى انتخابات تشريعية في أجل يمتد بين 45 و60 يوما. وهذا يعني أن المشهد الحالي الذي يميز البرلمان الجديد تستحيل معه إمكانية تشكيل الحكومة.
ويجمع متابعون للشأن الانتخابي التونسي على خطورة هذا السيناريو في عدة مستويات، أهمها التكلفة الباهظة للعملية الانتخابية، ما يحتم تخصيص اعتمادات إضافية ضخمة لاستكمال المسار الانتخابي، علاوة على أنها لا تتوفر على ضماناتٍ حقيقية، للوصول إلى شاطئ السلامة، وبالتالي إلى انتخاب برلمان مستقر. وأخيراً، لا شيء يمنع من أن تكون نتائج هذه العملية الانتخابية الثانية مطابقةً، أو مشابهةً للنتائج الحاصلة مع إمكانية توسع رقعة عزوف الناخبين، إذ لا يمكن منطقياً إقناع جلهم بالعودة إلى التصويت. ويضيف هؤلاء المراقبون أن هذا الوضع سيجعل الجهات المانحة على غرار الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي وغيرهما متردّدين في المضي في دعم الاقتصاد التونسي في ظرفٍ صعب، تجاوزت فيه المديونية نسبة الـ70%.
لقد أعلنت حركة النهضة، في حملتها الانتخابية، وتحت ضغط خسارتها المدوية الاستحقاق الرئاسي لمرشحها عبدالفتاح مورو، بأنها لن تتحالف مع حزب قلب تونس، في صورة فوزها بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية. ولكنها أمام إكراهات الواقع، تجد نفسها مضطرة لإعادة حساباتهاـ ومراجعة مواقفها بالمضي في استراتيجيات التحالف والتوافق التي سلكتها إبّان 
انتخابات 2014 مع حزب نداء تونس، وزعيمه الراحل الباجي قايد السبسي الفائز الأول. ولكن حليف الأمس لم يجن في انتخابات 2019 سوى ثلاثة مقاعد، ناهيك عن رحيل زعيمه ومؤسسه قايد السبسي. يضاف الى ذلك هذه الاعلانات المتواترة السالف ذكرها من الرفض للتحالف مع "النهضة"، وكان من المؤمل أن تلجأ إلى حركة تحيا تونس، مرشحة زعيمها يوسف الشاهد الى تشكيل الحكومة الجديدة، لكن يبدو أن المجلس الوطني لهذه الحركة قد اختار أن تصطف في المعارضة. وبذلك يستحيل على "النهضة" لتشكيل حكومة تقودها وفق مقتضيات الدستور، وهو أعسر بكثير على الكتل والأحزاب الأخرى في صورة احتمال فشل مرشح النهضة لرئاسة الحكومة، وعودة المبادرة السياسية إلى رئيس الدولة، وهو توصيف يدركه الجميع، بما في ذلك "النهضة"، وإن كانوا لا يقرّون به ضرورة.
تعقيدات هذا المشهد جعلت قيادات سياسية وازنة، مشهودا لها بالحكمة والرصانة، تدلي باقتراحاتها للذهاب نحو فكرة حكومة لا حزبية (أو فوق حزبية)، كأن تكون حكومة وحدة وطنية، أو حكومة إنقاذ وطني، أو حكومة تكنوقراط، هي المخرج الوحيد من المأزق، إلا أن ذلك يبدو مرفوضا من مختلف مكونات البرلمان الجديد، وفي مقدمتها "النهضة" التي أعلن زعيمها، راشد الغنوشي، أنها جاهزة لحكم تونس، وإيجاد حلول اقتصادية واجتماعية، مستفيدة من تجربتها في الحكم. .. لننتظر ما ستأتي به تقلبات السياسة وضروراتها.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي