06 نوفمبر 2024
بركان الغضب الأميركي الأسود
دقائق معدودات كانت كافية لتفجير أميركا، دقائق من الضغط العنصري على رقبة رجل أسود يختنق وهو يصرخ "لا أستطيع التنفس"، في مشهد قاس ومأساوي، بدا في البداية مألوفا في بلدٍ تحول فيه عنف الشرطة ضد المواطنين السود إلى مادة إعلامية سمجة مستهلكة، سرعان ما تمحوها الأحداث ويتناساها الناس. لذلك تأخرت سلطات مدينة مينابوليس التي قٌتل فيها جورج فلويد عدة أيام، قبل أن توجه تهمة من الدرجة الثالثة للشرطي الأبيض الذي ظهر في الفيديو الذي جاب العالم، يجثو بركبته على عنق مواطنه الأسود، يضع إحدى يديه في جيب سرواله، ويركز نظراته القاسية والباردة على عين الكاميرا، كمن يلتقط صورة تذكارية ستحرق أميركا وتُلهب العالم.
لقد أدّت طريقة القتل البشعة، ورد فعل السلطات الأميركية البارد في بداية الأمر، إلى إشعال فتيل الاحتجاجات الأكبر في تاريخ أميركا منذ ستينيات القرن الماضي، وأغرقت أميركا في غضب أسود عارم، عندما خرج الناس في أكثر من مدينة وولاية أميركية، متحدّين عنف الشرطة ووباء كورونا الذي فتك بأكثر من مائة ألف شخص في أميركا وحدها، ليقولوا لا لعنف وظلم قرنين من عنف سلطةٍ فاسدة، وظلمها وعدم مساواتها، تكتم أنفاس كل المطالبين بالحرية والعدالة الاجتماعية.
اليوم، بات صدى صراخ جورج فلويد الذي كان بالكاد يخرج من تحت ضغط ركبة الشرطي
الأبيض، يتردد في أكثر من دولة، وعبر قارات الأرض الخمس، مفجرا سيلا من السخط الشعبي ضد الظلم المنهجي والتاريخي في أكثر من منطقة في العالم، بعدما فتح شرخ الانتهاكات المنسية في الجدار الدفاعي لأنظمة عنصرية عديدة. أسبوع من الغضب العارم كشف زيف استقلال القضاء الأميركي ودفع سلطات مينيابوليس، تحت ضغط الشارع، إلى اعتقال عناصر الشرطة الثلاثة، وتوجيه تهمة القتل من الدرجتين الثانية والثالثة، وأدى إلى بروز انقسام كبير في هرم السلطة في أميركا عندما رفض وزير الدفاع أوامر الرئيس باستدعاء الجيش لمواجهة المتظاهرين، وفجر بركانا من الغضب الأسود الأميركي المتراكم على مدى عقود من جرائم القتل البارد للمواطنين السود على أيدي شرطةٍ ظلت محمية بقانون غير مكتوب، كان يسمح لها مع كل جريمة بالإفلات من العقاب.
ما تشهده أميركا اليوم، ومعها دول كثيرة انضمت جماهيرها إلى حملة "حياة السود مهمة"، هو انتفاضة تاريخية لتصحيح خيانة أميركا الرأسمالية حلم مارتن لوثر كينغ، زعيم ثورة اللاعنف من أجل استرداد حقوق السود والقضاء على سياسة التمييز العنصري ضدهم. وخلال أسبوعين فقط من التظاهر السلمي، كشفت هذه الانتفاضة زيف كثير من خطابات أميركا أرض الحلم وزعيمة العالم الحر، وأظهرت الوجه البشع لوحشية النظام الرأسمالي النيوليبرالي، وأسقطت آخر أوراق التوت عن العقيدة العنصرية لحاكم البيت الأبيض، وعرّت زيف مقولتي "القانون والنظام" المفترى عليهما، واللتين باسمها تم قمع كل الأصوات الغاضبة في أميركا على مر عقود، وتم إرسال الجيوش والأسلحة الفتاكة لإخماد ثورات كل الشعوب التواقة إلى الحرية والعدالة في العالم، من فيتنام إلى فلسطين والعراق مرورا بأفغانستان ودول أميركا اللاتينية.
لقد أدّت هذه الانتفاضة إلى فتح شرخ آخر في جدار العنصرية النظامية والمؤسساتية المسكوت عنها، وهذا ما يفسر مشاركة بيض ورجال ونساء كثيرين فيها، لأن أغلبية الغاضبين اليوم في أميركا خرجوا ليحتجّوا على العنصرية بكل أنواعها وألوانها، يوحّدهم الكفاح من أجل العدالة والمساواة في مجتمع مَحَقَ كل القيم التي تعطي للإنسان كرامة نفسه وعزتها. نحن أمام لحظة تؤرخ لميلاد جيل جديد من الحركات الاجتماعية العابرة للقارات، والممتدة عبر الزمن، والتي لن يقف أثرها عند القصاص لجورج فلويد، وإنما سيتعدّاه لإعادة صياغة نظام عالمي جديد، يقوم على مطالب العدالة والمساواة والكرامة والحرية للجميع، فالمفارقة اليوم لم تعد بين سود وبيض، وإنما باتت بين من لا يملكون أي شيء ومن يستحوذون على كل شيء، وهنا قوة الانتفاضة الأميركية التي بدأت تزعزع عرش الرأسمالية الأميركية الأنانية والمتغطرسة التي قتلت الشعوب ودمرت البيئة، وأبانت عن جشعها التاريخي في حكم العالم.
المواجهة الحالية هي بين شارع غاضب وجهاز شرطة عنصري لم يُخفِ رئيس نقابته دعمه
الحملة الانتخابية لترامب "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، عام 2016، وضد قضاء المدّعين العامين الذي وقف دائما إلى جانب الجلاد ضد الضحية. ولأول مرة في تاريخ الانتفاضات الشعبية في الولايات المتحدة، أحدثت هذه الانتفاضة انشقاقا في صفوف الجيش الأميركي الذي 40% من عناصره من السود والملونين، وأغلب مجنديه "اليانكي" من طبقات الشعب الكادحة والفقيرة. وقد بدأ بعض عناصر الجيش من السود وغيرهم من الأقليات يعبّرون صراحة عن تضامنهم مع حركة الاحتجاج الشعبية، في تغريداتٍ وتدويناتٍ عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لقد أصبحت مصداقية وشرعية هذه القوى الشرعية (الشرطة والجيش) التي استعملت لحماية الامتيازات، باسم حماية الملكية والقانون والنظام، موضع تساؤل من الجماهير الغاضبة التي تطالب بالعدالة والمساواة، وهو ما دفع كبار قادة الجيش ووزراء دفاع سابقين وجنرالات متقاعدين للتعبير عن ضرورة حماية حق الأميركيين في التظاهر وحرية التعبير، خوفا من فقدان الشعب الثقة في مؤسسة الجيش التي تحمي النظام، كما حدث إبّان حرب فيتنام.
لقد كشفت الانتفاضة الجديدة عن مجتمع أميركي مليء بالتناقضات المتأصلة في العرق والطبقة، هي التي تغذّي الغضب المتأجج في شوارع المدن الأميركية، وتختزل تاريخا طويلا من الإحباط الشعبي عمره عدة عقود من النضال ضد العبودية، والكفاح من أجل الحرية والعدالة والمساواة. وهو ما دفع محللين كثيرين إلى القول إن الثورة الاجتماعية في أميركا كانت خامدة عدة عقود، لأنه على الرغم من كل القوانين التي اعترفت للسود بحقوقهم، فإن الواقع لم يتغير كثيرا عن سنوات العبودية واللامساواة، ما دام الأميركي الأسود يولد فقيرا، ويموت فقيرا معزولا في غيتوهات، نادرا ما نسمع عنها، محروما من أبسط خدمات الصحة والتعليم والإسكان ومعرّض يوميا لعنف الشرطة العنصرية. وجاءت عملية القتل المأساوي لجورج فلويد لتفجر نار بركان الغضب الأسود المحتقن عبر عقود طويلة.
العالم اليوم على مشارف نهاية نظام عالمي حكم العالم ثلاثة عقود منذ سقوط جدار برلين، بشّر بنهاية التاريخ وبانتصار الرأسمالية الليبرالية المتوحشة التي أعلت من قيمة الفرد حتى ضخمت أنانيته وغطرسته. ومن حسن حظ العالم أو سوئه اليوم أن نار حريق هذا الغضب لن تنطفئ قريبا، وإنما سيؤجّجها حطب أزمة اقتصادية عالمية عمّقت الهوة بين الطبقات، وضخّمها انتشار وباء عالمي غير مسبوق. أزمة عالمية متعدّدة الأبعاد أجّجت غضب الشعوب ضد العنصرية واللامساواة في أميركا وفي كل مكان، وحققت وحدة نضالهم ضد الاستبداد والاستغلال والفاشية ومن أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
اليوم، بات صدى صراخ جورج فلويد الذي كان بالكاد يخرج من تحت ضغط ركبة الشرطي
ما تشهده أميركا اليوم، ومعها دول كثيرة انضمت جماهيرها إلى حملة "حياة السود مهمة"، هو انتفاضة تاريخية لتصحيح خيانة أميركا الرأسمالية حلم مارتن لوثر كينغ، زعيم ثورة اللاعنف من أجل استرداد حقوق السود والقضاء على سياسة التمييز العنصري ضدهم. وخلال أسبوعين فقط من التظاهر السلمي، كشفت هذه الانتفاضة زيف كثير من خطابات أميركا أرض الحلم وزعيمة العالم الحر، وأظهرت الوجه البشع لوحشية النظام الرأسمالي النيوليبرالي، وأسقطت آخر أوراق التوت عن العقيدة العنصرية لحاكم البيت الأبيض، وعرّت زيف مقولتي "القانون والنظام" المفترى عليهما، واللتين باسمها تم قمع كل الأصوات الغاضبة في أميركا على مر عقود، وتم إرسال الجيوش والأسلحة الفتاكة لإخماد ثورات كل الشعوب التواقة إلى الحرية والعدالة في العالم، من فيتنام إلى فلسطين والعراق مرورا بأفغانستان ودول أميركا اللاتينية.
لقد أدّت هذه الانتفاضة إلى فتح شرخ آخر في جدار العنصرية النظامية والمؤسساتية المسكوت عنها، وهذا ما يفسر مشاركة بيض ورجال ونساء كثيرين فيها، لأن أغلبية الغاضبين اليوم في أميركا خرجوا ليحتجّوا على العنصرية بكل أنواعها وألوانها، يوحّدهم الكفاح من أجل العدالة والمساواة في مجتمع مَحَقَ كل القيم التي تعطي للإنسان كرامة نفسه وعزتها. نحن أمام لحظة تؤرخ لميلاد جيل جديد من الحركات الاجتماعية العابرة للقارات، والممتدة عبر الزمن، والتي لن يقف أثرها عند القصاص لجورج فلويد، وإنما سيتعدّاه لإعادة صياغة نظام عالمي جديد، يقوم على مطالب العدالة والمساواة والكرامة والحرية للجميع، فالمفارقة اليوم لم تعد بين سود وبيض، وإنما باتت بين من لا يملكون أي شيء ومن يستحوذون على كل شيء، وهنا قوة الانتفاضة الأميركية التي بدأت تزعزع عرش الرأسمالية الأميركية الأنانية والمتغطرسة التي قتلت الشعوب ودمرت البيئة، وأبانت عن جشعها التاريخي في حكم العالم.
المواجهة الحالية هي بين شارع غاضب وجهاز شرطة عنصري لم يُخفِ رئيس نقابته دعمه
لقد كشفت الانتفاضة الجديدة عن مجتمع أميركي مليء بالتناقضات المتأصلة في العرق والطبقة، هي التي تغذّي الغضب المتأجج في شوارع المدن الأميركية، وتختزل تاريخا طويلا من الإحباط الشعبي عمره عدة عقود من النضال ضد العبودية، والكفاح من أجل الحرية والعدالة والمساواة. وهو ما دفع محللين كثيرين إلى القول إن الثورة الاجتماعية في أميركا كانت خامدة عدة عقود، لأنه على الرغم من كل القوانين التي اعترفت للسود بحقوقهم، فإن الواقع لم يتغير كثيرا عن سنوات العبودية واللامساواة، ما دام الأميركي الأسود يولد فقيرا، ويموت فقيرا معزولا في غيتوهات، نادرا ما نسمع عنها، محروما من أبسط خدمات الصحة والتعليم والإسكان ومعرّض يوميا لعنف الشرطة العنصرية. وجاءت عملية القتل المأساوي لجورج فلويد لتفجر نار بركان الغضب الأسود المحتقن عبر عقود طويلة.
العالم اليوم على مشارف نهاية نظام عالمي حكم العالم ثلاثة عقود منذ سقوط جدار برلين، بشّر بنهاية التاريخ وبانتصار الرأسمالية الليبرالية المتوحشة التي أعلت من قيمة الفرد حتى ضخمت أنانيته وغطرسته. ومن حسن حظ العالم أو سوئه اليوم أن نار حريق هذا الغضب لن تنطفئ قريبا، وإنما سيؤجّجها حطب أزمة اقتصادية عالمية عمّقت الهوة بين الطبقات، وضخّمها انتشار وباء عالمي غير مسبوق. أزمة عالمية متعدّدة الأبعاد أجّجت غضب الشعوب ضد العنصرية واللامساواة في أميركا وفي كل مكان، وحققت وحدة نضالهم ضد الاستبداد والاستغلال والفاشية ومن أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.