بحرك يا غزة
مساء الخميس الأول بعد انتهاء العدوان على غزة، لم أستطع إلا أن ألبي نداءه، فهو عندي مثل "الندّاهة" للفلاح البسيط، والتي تداولت قصتها الخرافات. لبّيت نداءَه، وأنا أمتلئ زهواً بأنه خصّني بهذا النداء، وطلبت من صغاري أن يحزموا أغراضهم، لنتوجه صوبه، فقد اشتقنا إليه، وافتقدناه منذ نحو شهرين.
حين وصلنا إلى شاطئه، تضاءل زهوي، لأني وجدته قد أطلق النداء لمعظم أهل غزة، فقد سبقتني إلى الشاطئ أعداد لا تحصى من البشر. وبالكاد، عثرت على "طاولة وشمسية" قريبة منه، وعسكرت حولها، أنا والأولاد.
أمام الشاطئ، احتشد كل من ناداهم البحر، ليغسلوا همومهم، وينسوا أحداثاً مؤلمةً مرت بهم، واحداً وخمسين يوماً، كانت أياماً من الجحيم، وخصوصاً لأطفالٍ انتشروا على الشاطئ بكثرة، وكأنهم يعلنون أنهم أنصار الحياة، ولم يكن صعباً عليَّ أن أكتشف أنهم قدموا من القرى الشرقية للقطاع، والتي شهدت أعنف المجازر، فملامحهم ولهجتهم مميزة، وحركاتهم وألعابهم توحي ببساطتهم، وما جلبوه من طعام بدأوا يخرجونه من سلال بلاستيكية صغيرة، كانت في حوزة الأمهات. هم مشهورون في إعداد خبز الطابون، وخبز "الشراك"، كما يسمّى في غزة، وهو الخبز الرقيق الذي يخبز على قطعةٍ من الصفيح المعقوف. وبعد أن نهشوا بأسنانهم الصغيرة أرغفة الخبز الشهية والطازجة، والتي تدعوك لتناولها من دون أن تأكل معها شيئاً آخر، كالجبن أو شرائح اللحم المقدد، بدأوا يصطفون في طوابير صغيرة على شاطئ البحر، وأرجلهم تغوص، مرّة في الرمال، ومرّة في المياه التي تنسحب وتعود، وكأنها تشاركهم فرحتهم، وأخذوا يقلدون العروض العسكرية التي جابت الشوارع، من شمال غزة إلى جنوبها، فرحاً بالنصر وانتهاء العدوان.
أمام الشاطئ، أيضاً، لم يتوقف الباعة الجائلون عن عرض بضائعهم الرخيصة على مرتاديه، فهذا الشعب يريد أن يعيش، ولو بأي قدر من وسائل العيش، حيث لا يمكن أن يوفر بائع جائل حياةً مترفةً لعائلة كبيرة في غزة، وعائلات غزة تتفاخر وتتباهى بعدد ذكورها باعتبارهم "عزوةً" و"سنداً".
وأمام الشاطئ، يظهر الحنطور الذي يحمل الناس في جولاتٍ سريعةٍ، وقد دخل الساحة الغزية تقليداً للحنطور المصري، وتم تهريب زينة الأحصنة عبر الأنفاق من مصر. وتمر، أيضاً، جمالٌ يعرض أصحابها على المرتادين ركوبها في مقابل مبالغ زهيدة، وتظهر، من بعيد، عدة قوارب تمخر عباب الماء، وتشقُّ ماء الشاطئ، لتستقر على اليابسة، وتحمل أعداداً من الصغار، مع أحد أقاربهم الأكبر سناً في جولةٍ بحريةٍ، لا تزيد عن نصف ساعة، يستمتع في أثنائها ركاب القوارب بملامسة الماء ومصافحة الموج، ويتعالى صوت مرحهم وصخبهم، وهم يلوحون من بعيد لأمهاتهم.
وأمام الشاطئ، يجلس البسطاء على الرمال الناعمة، ويجلس أهل الطبقة المتوسطة على الكراسي البلاستيكية، ويتناثر بعضهم على مقاعد إسمنتية ثابتة، ويضع كل هؤلاء وجباتٍ أعدّتها النساء في البيوت. ومن بعيد، تلوح كافتيريات ومطاعم، وتلمح، على امتداد بصرك، فنادق سياحية تستقبل الأثرياء ووفود الأجانب والصحفيين الغربيين الذين تابعوا العدوان، لحظة بلحظة.
وأمام الشاطئ، تمد بصرك بعيداً، فترى قوارب صيد انطلقت مع مغيب الشمس، بحثاً عن الرزق، ولن تعود إلى اليابسة، إلا مع ساعات الفجر، محملةً بخيرات البحر الذي عبّر عن فرحه في الأيام الأولى لانتهاء الحرب، فقدّم، في أول رحلة صيد، أكثر من 20 طناً من الأسماك، تحية لأهل غزة. وبعد قرار زيادة مساحة الصيد المقررة بستة أميال للصيادين الذين طالما عانوا من منعهم من الصيد، وملاحقة الزوارق الحربية الإسرائيلية لهم بالرصاص.
أمام شاطئ بحر غزة، إرادة وحياة وأمل ونظرة إلى مستقبل مجهول، يرجو من ناداهم البحر ولبّوا نداءه أن يكون مشرقاً وسعيداً، ويحمل التغيير إلى الأفضل، فلسان حالهم يصرخ: كفى..