باسل الأعرج والوعي الفلسطيني المضاد

18 مارس 2017

باسل الأعرج.. في احتجاج في غزة (12/3/2017/الأناضول)

+ الخط -
قمعت السلطة الفلسطينية فعاليَّةً احتجاجية في رام الله، نُظِّمت ضدَّ محاكمة باسل الأعرج الذي استشهد، أخيراً، في مواجهةٍ مع قوات الاحتلال، بعد أن كان أيضا مطلوبا لأمن السلطة، ولم تكن خصومته مع السلطة، أو خصومتها معه، على خلفية حيازة السلاح (غير المرخص) فقط، ولكن بوصفه ناشطا خارج سِرْبِها. وكان قد تعرّض للضرب على يد أمن السلطة في أثناء مشاركته الاحتجاجية ضد زيارةٍ كانت مقرَّرة لوزير الدفاع الإسرائيلي لرام الله، شاؤول موفاز، في عام 2012، ومع أن السلطة ألغتْ محاكمة باسل؛ بسبب وفاته، إلا أنها أبقت على محاكمة رفاقه، ومنهم أربعة في سجون الاحتلال.
هنا عدَّة ملحوظات، الأولى: لا يبدو أن السلطة تفرّق بين سلاح فلتانٍ أمني وآخر مقاوم، بل إنَّ سلاح الفلتان قد يحظى بانتشار أكبر من سلاح المقاومة. والثانية أنَّ باسل الذي أصبح بمثابة أيقونة نضالية واعية، تتقاطع على معاداتها السلطة والاحتلال، وتتداخلان، قد يغدو محطَّةً مهمة في تطوير وعي مضاد متجاوِز للوعي الذي تحاول السلطةُ تكريسه. والثالثة أنَّ السلطة لا تُحسِن تقدير الحالة الشعورية لدى أبناء شعبها، أحيانا، أو أنها مضطرة، وَفْق التزاماتها تُجاه إسرائيل، ووَفْق آمالها بتدشين علاقة تراها ضرورية مع أميركا- ترامب، لهذا التجاهل للحالة الشعورية الشعبية التي قد تراها، في أخفّ التوصيفات، غيرَ ناضجة.
من المهم أن ننتبه إلى إمكانية حقيقية لنشوء حالة نضالية خارج نطاق السلطة، وهي الحريصة على ألا تَحْرِم نفسها من شرف المقاومة، وإن حوَّرتها، أو حاولت، تحجيمها ضمن ما أسمتها "المقاومة الشعبية". بالطبع، هنا يشمل هذا التجاوز حركة فتح؛ لأنها- رسميا- لا تخرج عن مفهوم السلطة في النضال، وفي أحيانٍ كثيرة، لا تنجح في فصل كيانها عن كيان السلطة، مع ما يحمله ذلك من خطر عليها، في حال أخفقت السلطة، أو اضطرت إلى مواجهة الوجدان الشعبي، أو الاستحقاقات الشعبية، كما أن هذا التماهي بين حرمة فتح والسلطة خطر على السلطة؛ لأنه يحرمها من جسم شعبي وطني، لن يكون في صفِّ أعدائها، حتى لو نجح في الحفاظ على مسافة ضرورية معها.
ليس الحديث هنا فقط عن البعد الشعوري الوجداني، لأن الهمَّ السياسي يقفز في صُلْب العلاقة
بين الفلسطينيين والسلطة؛ ولا سيما بعد كل هذه العقود، (منذ اتفاقات أوسلو التي أفرزت السلطة، وقامت بموجبها سنة 1993) حيث أضحت السلطة أشبه بشاهدٍ على الاستيطان والتهويد الذي تغوَّل، ولم تنجح، ولا يُتوقَّع أن تنجح، مساعيها نحو التدويل والمقاطعة الدولية، في لجْم الاستيطان، في ظل حكومة احتلالية، استيطانية بالدرجة الأولى. وفي ظل رئيس أميركي، أقلّ ما يوصف به أنه لن يمارس ضغوطا قوية، أو حتى يوبِّخ إسرائيل علنا، لقاء مضيِّها المتسارع في مشاريعها الاستيطانية، حتى لو قبلت الأخيرة تكتيكيا، الامتناع عن الإعلان عن تلك المشاريع التوسُّعية.
صحيح، أن أمثال باسل الأعرج ليس من السهولة أن تتبلور لهم حركةٌ تنظيمية تتصف بالديمومة والاتساع الطاغي، وهكذا تُؤمِّل السلطة، لأسبابٍ منها الانهماكات الاقتصادية المعيشية التي ألمّتْ بقطاعاتٍ واسعة من الفلسطينيين في الضفة الغربية، وهي المكان الأكثر حساسية وحيوية في مقاومة المشروع الاستيطاني الاحتلالي. ومن الأسباب أنَّ "فتح"، وهي الحركة التاريخية في النضال، والأقدر على قيادته، (وفي ظل التضييق على الفصائل والحركات الأخرى) تحظى بدعم رسمي كبير؛ لكي تَبقى عنوانَ النضال، ومُحدِّدةَ خياراته، وهي لا تزال تعلن الولاء لمحمود عباس رئيس السلطة، وقائد فتح، وكان مؤتمر الحركة السابع (أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي) علامةً أرادَها أبو مازن واضحةً ومؤكّدة على قيادته هذه الحركة، حتى مع محاولات شخصياتٍ كانت نافذة فيها، في مقدمتها محمد دحلان، أن ينافسوا عباس، أو يطيحوه، على الرغم من دعم الأخير من دول عربية، أهمَّها مصر، فحركة فتح تطبَّعتْ مع خطاب أبو مازن الذي يفترق عن خطاب ياسر عرفات في نقطة جوهرية، هي الاقتصار على المقاومة السلمية، ثم يتجاوز ذلك إلى ملاحقة مَن يخرج عن ذلك النهج، إذ ليس هذا خيارا للسلطة أو ل"فتح"، فقط، بل بقدر ما إن بقاء السلطة مرهون بالحفاظ عليه.
في مُحرِّكات الشعب الفلسطيني المحتل، وما يعتمل في وجدانه، وعقله الجمعي، قد لا تكفي بعض التجليات للمقاومة الشعبية في أماكن محدودة، وفي أوقات محدودة، في استيعاب العوامل الاحتلالية النقيضة التي تزداد وتيرتُها.
ولعل أخطر ما يحدث تحوّل السلطة إلى منطق الدولة وخطابها، وقضيَّتُها، ومشروعها لا يزال
 غير متحقِّق، وهي التحرير الوطني، حتى على مستوى الأراضي المحتلة عام 67، فهي أقرب ما تكون إلى آليَّةَ تآكُل (وتفتيت) لقوى المقاومة، في وقتٍ تقف فيه إسرائيل/ الدولة، (وكثير من قواها الحزبية والمجتمعية) مع إرهاب جنودها ومستوطنيها، وتحاول أن تُشرعِن خروجَهم ما دام ضد الفلسطينيين، حتى عن قواعدها القانونية هي، كما تجلَّى، ذلك، أخيرا، في الحكم المُخفَّف على الجندي الذي أعدم الجريح الفلسطيني، عبد الفتاح الشريف.
وبكلمة أخيرة، لا تحتكم الشعوب وحركتها دائما إلى حساباتٍ منطقية، بقدر ما تندّ عنها، بالاستجابة إلى تراكماتٍ، أو شرَرٍ قد يكون عاطفيا، حين تتجسَّد تلك المعاني في شخصياتٍ استطاعت التعبير عنه، وعيًا وانتماءً وتضحية. وهذا ما لم يكن باسل الأعرج بعيدا عنه، وعلى هذا، فهو لا يمثِّل حالةً فردية، بقدر ما يمثل مرحلةً تحاول أن تكون.
الكاتب أسامة عثمان
الكاتب أسامة عثمان
أسامة عثمان
كاتب فلسطيني
أسامة عثمان