بابا روما "غير الشيوعي"

27 سبتمبر 2015

البابا فرانسيس في هافانا: لستُ شيوعياً (22 سبتمبر/2015/Getty)

+ الخط -
"لا، لست شيوعياً. ما أقوله هو في صلب تعاليم الإنجيل". 
لم يتردد بابا روما، ولم يجد حرجاً أو استفزازاً، في الرد على صحافي فاجأه بالسؤال، بعد أن انتهى من الخطاب الجريء والثوري في آن، الذي ألقاه أمام 500 ألف شخص احتشدوا لسماعه أول مرة في "ساحة الثورة" في العاصمة الكوبية، حيث أقام الحبر الأعظم الذبيحة الإلهية، وفوقه ارتفع صليب كبير للسيد المسيح إلى جانب صورة عملاقة للثائر أرنست تشي غيفارا، وأخرى لخوسي مارتي، أحد أهم قادة الثورة الكوبية.
وبهذه العبارات، لخص فرانسيس عنوان زيارته الأولى إلى كوبا الرازحة تحت شيوعيتها، وربما مهد لزيارة الولايات المتحدة عاصمة الرأسمالية المأزومة. وهو الذي لعب، من وراء الكواليس، دور الوسيط والعراب من أجل فك الحصار الخمسيني عن الجزيرة، والتمهيد للمصالحة بين هافانا وواشنطن. وهو اليوم يقوم بهذه الزيارة المزدوجة، بعد أن عادت العلاقات بين الدولتين.
لا شك أن صاحب السؤال كان يقصد الغمز من قناة البابا الأرجنتيني الذي يعتبر كثيرون أن النهج الذي أطلقه، منذ اعتلائه سدة بطرس في الفاتيكان (13 مارس/آذار 2013)، يشكل ثورة غير مسبوقة في عالم الكنيسة الكاثوليكية، وفي الوقت عينه، على الكنيسة نفسها مؤسسة. ويبدو أيضاً أن البابا نفسه ارتاح للسؤال الذي يعطيه الفرصة لإزالة (أو توضيح) الالتباس التاريخي بين مفاهيم الكنيسة وأسلوب عملها، والشيوعية كعقيدة ونظام لتغيير المجتمع. ويُستحضر، هنا، في المناسبة، كلام للأسقف اللبناني المخضرم، غريغوار حداد، ورجل الإصلاح في الكنيسة بامتياز، والذي دُمغ يوماً ما بـ "الأسقف الأحمر"، تأكيده على أن الشيوعية هي التي تبنت تعاليم المسيح وليس العكس. وهو الذي ذهب أبعد من ذلك، معتبرا أن الكنيسة، كمؤسسة، نشأت بعد ظهور المسيح بثلاثمئة سنة، فهو لم يؤسس كنيسة، ولم يرد إنشاء سلطة.
ماذا قال فرانسيس في كوبا؟ أكد أنه، على الرغم من المعاناة، يبقى الشعب الكوبي فاتحاً ذراعيه، ويمشي بأمل ويبحث عن الفرح. وهو يرى المسيح في كل شخص في الطريق، في الجائع، والعطشان، والعريان، والمريض، وحتى السجين. وأطلق هنا حكمته في المفاضلة بين الأيديولوجيات والأشخاص، قائلا: "لا نخدم الأيديولوجيات، وإنما الأشخاص، فمن لا يعيش ليخدم لا ينفع للعيش". كلام قاله أمام راؤول كاسترو الذي تصدر الحشد، ولزعيم الثورة المتقاعد فيديل الذي زاره في منزله. وقد اعتبر الصحافي صاحب السؤال أن البابا أراد، بلباقته وحنكته المعهودة، إحراج كاسترو عبر "تصحيح" شيوعيته.
وفي واشنطن، بدا فرانسيس على الأرجح "أكثر شيوعية" أمام الكونغرس، الذي اجتمع،
بشيوخه ونوابه، للاستماع، أول مرة، لبابا روما يتكلم داخل الكونغرس. استعمل فرانسيس سلاح الولايات المتحدة نفسها، مركزاً على حقوق الإنسان، رافعاً صوته، مطالباً بإلغاء حكم الإعدام، وبإلغاء أيضا تجارة السلاح التي تعتبر الوجه الآخر للقتل والعنف وإنهاء حياة البشر. ثم وضع الحبر الأعظم إصبعه على الجرح مطالبا بـ "تحرير السياسة من تحكم رأس المال". واستعاد ذكرى أب واشنطن، أبراهام لنكولن، وبطل المساواة ورفض التمييز العنصري، مارتن لوثر كينغ، وسط مقاطعة النواب والشيوخ وتصفيقهم، إلى درجة أن رئيس مجلس النواب، جون بوهنر، أجهش مراتٍ بالبكاء.
طبعاً، كلام البابا هو أقرب إلى التبشير منه إلى الفعل والتأثير في واقع السلطة، إلا أنه يحاول أن يقوم بدوره سلطة روحية، يبدو أنها تكتسب، يوماً بعد يوم، قوة جذب وإقناع في زمن انهيار الأيديولوجيات، وصعود القوميات والإثنيات، واستفحال الأصوليات.
إلا أنه يركز كثيراً، في الآونة الأخيرة، على مسألة التغيير، ويؤكد أنه يلمس، في لقاءاته وسفراته، حالة "انتظار" ورغبة في التغيير لدى كل شعوب العالم. ويتكلم عن ضرورة "تغيير النظام الذي فرض منطق الربح، مهما كلف الأمر"، هذا النظام الذي لم يعد قادراً، برأيه، على الصمود، وهناك حاجة لتغيير حقيقي. ويحذر الحكام من أن "الوقت يبدو أنه اقترب من النهاية". وكأنه يقول انتبهوا، فالثورات والانتفاضات آتية. وفي آخر محطة من زيارته، وقف، من على منبر الأمم المتحدة، مركّزاً على مسألتين، ضرورة الحفاظ على البيئة، والاهتمام بالفقراء عبر تأمين أربعة: منزل، عمل، حرية، وأرض. وفي أثناء ترؤسه مؤتمر التنمية المستدامة، خص المرأة بمرافعة مستفيضة وحاسمة، وطالب بمنحها حقوقها "من أجل إظهار شخصيتها التي منحها إياها الله، ولكي تتمكن من لعب دورها في الحوار، وفي فض النزاعات في العالم". ولفت البابا إلى تمتع المرأة بحس إنساني كبير، يتميز في تضميد الجراح والاهتمام بحياة البشر.
بدأ البابا الأرجنتيني ثورته من الداخل، قبل أن يبدأ بإطلاق مفاهيم وسلوكيات جديدة، لتقريب
الناس من الدين ويعيد النظر بأخرى. بدأها بنفسه أولاً، ومنذ اليوم الأول لانتخابه، متخلياً عن كل مظاهر البهرجة في الملبس، ومغادراً جناح الإقامة المخصص للبابوات إلى دير صغير ملاصق من طبقتين، يتنقل بينه وبين المكاتب الحبرية سيراً على الأقدام. ولم يتأخر في إطلاق حملة الإصلاح داخل أروقة الفاتيكان ومؤسساته، واضعا يده على ملف الفساد في أهم مؤسسة مالية هي بمثابة المصرف الرسمي للكنيسة ("مؤسسة الأعمال الدينية"). ورفع الغطاء عن أحد الأساقفة المسؤولين، متيحاً للقضاء الإيطالي تنفيذ قرار بتوقيفه، وكذلك فعل مع أحد كبار الكرادلة الذي كان سفيراً في جمهورية سان دومينيك، بعدما ثبت تورطه بالتحرش الجنسي بقاصرين. ولفت نظر الأساقفة ورجال الدين إلى أنه من المستحسن ألا يكون لديهم حسابات في البنوك، عندما قال: "لم يكن ليسوع حساب في البنك".
ناهيك عن الدور الذي لعبته اللجنة الخاصة التي شكلها، وتمكّنت، في ثمانية أشهر، من إجراء نفضة في هيكلية مواقع المسؤولية في الفاتيكان وخارجه، طاولت رئيس حكومته ("سكريتير الدولة") ووزير خارجيته والمسؤولين عن ملفات مهمة، لكنه لم يتمكن بعد من إحداث تغيير فعلي في السلطة المشرفة على مجمع الكنائس الشرقية. وحوّل "السينودسات" (الجمعيات العامة للكرادلة) إلى ورشات عمل منتجة، يحضرها هو شخصياً ويناقش، وتثار فيها نقاشات حقيقية، وتتخذ فيها قرارات بالتصويت بالأكثرية، وبمعارضة علنية ممن يعارض.
فهل هذه شيوعية بابا فرانسيس؟
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.