انكشاف المسكوت عنه

24 يناير 2020
محمد المفتي/ سورية
+ الخط -

اللافت أن اللغة العربية تزخر بالمفردات التي تشير صراحةً إلى الوضع القمعي الذي يجعل الرواية تختار الصمت أو السكوت عن الواقع الخارجي الذي كُتبت في الأصل كي تتحدّث عنه. هذا ما يمكن أن يُظهره النقد الذي يتطرّق إلى موضوعات المسكوت عنه، وهو ما قد يشير إلى انعكاس الواقع في النص الأدبي، فلو كان التعبير حرّاً، أي لو كان الروائي يعيش في ظل ما يُعرَف بحرية التعبير، وهي حالة ترتبط بالضرورة بالديمقراطية في الحياة السياسية، فإننا سوف نشهد طريقة مختلفة للتعبير، وطريقة مختلفة أيضاً للتناول النقدي الذي لن يتطرّق إلى مفردات الحظر والمنع والرقابة.

فالغموض والتورية والتشوّش والإقصاء والحذف والفراغات والفجوات والمغيّب والمقموع والمحذوف، هي بعض المفردات التي تقابل مجموعة أخرى من العوامل والموجودات وأشكال الحضور الواقعية التي تُسمّى سلطات القمع: التراث والدين واللغة والجنس والأعراف والتقاليد والقبيلة والمجتمع والأب والسلطة السياسية.

أمامنا أمران بخصوص المسكوت عنه، فإمّا أن يكون داخل النص، أي أنَّ النص الروائي سكت عن قول ما يريد قوله بخصوص أمر ما، وهنا يمكن تقصّي أسباب الصمت أو السكوت الروائي عن هذا القول، وهي أسباب قد تكون موجودةً في أنظمة القمع، أو المحظورات الدينية والاجتماعية التي تضع الخطوط الحمراء أو تحاسب من ينتهكها بشدّة، والثاني هو المسكوت عنه في المجتمع والسياسة الذي تكشف الأعمال الروائية وجوده أو حضوره في اللاوعي الفردي أو الجمعي، أو تكشف حقيقته حين يقارب الروائي الموضوعات المباشرة الممنوعة في ظل أحكام مختلفة تقيّد حرية التعبير.

وهذا يعني أنه في مقابل الشجاعة والجرأة والقدرة على اقتحام الممنوع والمحظور، تُقدّم الرواية وجهاً آخر هو الخوف والتردُّد والخشية من العواقب الثقيلة التي تترتّب عن القول. والطريف أن يشتد الخلاف أحياناً بين الروائيّين أنفسهم، حول ما يمكن أن يُقال، أو حول ما الضروري فيما يُقال أو لا يُقال، وأكثر المجالات التي تحتدم حولها المعارك الأدبية، الكتابية أو الشفوية هي الجنس والدين، وبما أنَّ الدين محظور أو ممنوع ذو طابع شديد العمومية، ويكتنز أنصاراً كثيرين يمكن أن يثيروا الشغب حول الرواية والروائي، فإن الجنس يبقى هو الساحة الفارغة لخوض النقاشات الحامية حول المسموح والممنوع.

ثمّة من يقول إن الجسد في الرواية لا معنى له، ومن غير الضروري أن يظهر في الكتابة، ويتبع هذا قمع المطالب الجسدية، إمّا بالصمت أو بالتجاهل، وفي هذه الحالة يكون الصمت أو السكوت شكلاً للتراجع والانسحاب أمام ضغوط الواقع، ومطالب الأيديولوجيا، أو بالامتناع المقصود عن الاقتراب من موضوع الجسد الذي يكون تعبيراً عن موقف الروائي الفكري أو الاجتماعي أو السياسي.

تُعنى الرواية أكثر من غيرها، من الأجناس الأدبية، بمسألة المسكوت عنه، وربما كان لها الفضل في إعادة التعريف به، سواء قاربت موضوع الخطوط الحمراء أم ابتعدت عنها، إذ كلّما ازداد الكلام عن المسكوت عنه، سواء في النقد الروائي المكتوب، أو في لوائح الرقابة، أو في دليل المحظورات المجتمعية والسياسية والدينية، بأمل إخفائه، ازداد انكشافه في المقابل.

المساهمون