انقلاب ضمن قانون اللعبة في لبنان: فضائح وأيام سوداء

08 مايو 2018
سُجلت نسبة اقتراع ضعيفة قاربت 49 في المائة(حسين بيضون)
+ الخط -
نصف انقلاب لكن من داخل قانون اللعبة، هو ما حصل في الانتخابات النيابية اللبنانية التي جرت يوم الأحد السادس من مايو/ أيار 2018 مع الخسارة الكبيرة التي مني بها تيار المستقبل (حصل على 17 أو 18 نائباً مقابل 36 حاليين من أصل 128)، والإنذار الجدي الذي تلقاه التيار الوطني الحر (تيار رئيس الجمهورية ميشال عون)، والفوز الذي حققه ثنائي حزب الله ــ حركة أمل، والذي لا ينافسه أهمية إلا الانتصار الكبير الذي ناله حزب القوات اللبنانية، منافس التيار العوني على التمثيل المسيحي، والحليف لمحور السعودية في لبنان.

انتصار ما يُسمى في لبنان بـ"الثنائي الشيعي" لم يقتصر على ضمان احتكارهما مناطق نفوذهما، وحصدهما كل المقاعد المخصصة لطائفتهما ما عدا مقعد واحد في منطقة جبيل (شمال بيروت)، أي 26 من أصل 27 نائباً، بل تُرجم توسيعاً لسلطتهما البرلمانية ــ السياسية إلى أماكن جديدة، خصوصاً داخل الطائفة السنّية، عبر حلفاء مقربين جداً من حزب الله ــ أمل في صيدا (الجنوب)، وبيروت وطرابلس (الشمال)، لمزيد من إضعاف تيار المستقبل ورئيسه سعد الحريري وفرض شروط عليه، تجعله رئيس حكومة (إن ترأسها بالفعل وهو أمر مرجح) مقيّداً في السياسة الداخلية والخارجية وفي خياراته العامة في عناوين انقسام المنطقة بين محورين إيراني وسعودي. وهو ما يخشى كثيرون أن يعمّق من الأزمة الطائفية في هذا البلد، لأن النتائج ربما تفاقم من شعور المظلومية التي تمر فيها الطائفة السنّية في لبنان، كامتداد لما يحصل في المنطقة العربية عموماً مع التوسع الهائل للنفوذ الإيراني المباشر في أربع دول عربية. شعور مظلومية ربما يعززه واقع نيل مرشح حزب الله في العاصمة، أعلى عدد من الأصوات على الإطلاق، أكثر من أصوات سعد الحريري شخصياً، علماً أن الغالبية الديمغرافية الساحقة في بيروت هي سنّية.

ولم يكن من الصدفة أن تهتم الصحف العالمية، الإسرائيلية والأميركية والفرنسية خصوصاً، بنتيجة الانتخابات، والعربية السعودية تحديداً، لترى فيها ناقوس خطر من انتفاخ قوة حزب الله وإكمال فرض سيطرته على هذا البلد من داخل مؤسساته الدستورية، بعدما هيمن عليه بالسلاح وبما يسمى "الدولة داخل الدولة". وفي هذا التوصيف العام، شيء من الصحة، ذلك أن حزب الله اليوم، مع حليفه اللصيق حركة أمل وحلفائه من خارج الطائفة الشيعية، ممّن يؤيدونه في سياساته الخارجية بالكامل وبعض سياسته الداخلية أو كلها، حقق انتصاراً كبيراً بحجزه، مع حلفائه اللصيقين، ثلث عدد مقاعد البرلمان (أكثر من 42 نائباً)، وهو ما يسمى في لبنان بالثلث المعطل الذي يتيح لصاحبه أن يعرقل تمرير أي مشروع قانون لا يرغب به. وهؤلاء الحلفاء "المضمونون" بالنسبة لحزب الله ــ أمل، يتألفون من نواب الحزب القومي السوري الاجتماعي (نائبان أو 3) وتيار المردة (3 نواب) وتيار فيصل كرامي (نائبان) وحزب البعث (نائب واحد) ونواب سنّة من حلفاء حزب الله، مثل الوليد سكرية وعبد الرحيم مراد وأسامة سعد وربما فؤاد مخزومي، ونواب مسيحيين محسوبين على حزب الله، مثل ألبير منصور وميشال موسى، وربما نواب كتلة العزم برئاسة نجيب ميقاتي (4 نواب)، ونواب آخرين مثل طلال إرسلان من حلفاء حزب الله.

ما حصل في لبنان بعد ظهور نتيجة الانتخابات كبير جداً. ومصطلح كبير يفضل كثيرون عليه تعبير خطير، لكنه في كل الأحوال مهم للغاية في توقّع شكل الإدارة الداخلية المستقبلية لهذا البلد الهش في دولته واقتصاده المديون بنحو مائة مليار دولار، وسلمه الأهلي المهزوز دوماً، وعلاقات جماعاته الطائفية، وفي علاقات هذا البلد وجماعاته مع الخارج القريب والبعيد، في عز الانقسام الإقليمي السعودي ــ الإيراني، والخراب العربي، وسط طبول حرب يشكل حزب الله طرفاً رئيسياً محتملاً فيها حين تحصل، أو إذا حصلت.

انكسر تيار المستقبل، في عقر داره، وخسر أكثر من نصف مقاعده. كذلك شريكه ــ حليفه المستجد منذ 2016، أي التيار الوطني الحر (أسسه رئيس الجمهورية)، الذي يرأسه جبران باسيل، تلقى إنذاراً شعبياً ــ سياسياً، لتهتز في لبنان "تسوية سعد الحريري ــ جبران باسيل" التي أدارت هذا البلد منذ فرض وصول ميشال عون إلى الرئاسة، مقابل تثبيت سعد الحريري في رئاسة الحكومة، بصفقات سياسية لإدارة الدولة على قاعدة تقاسم السلطة بين هذين الطرفين، بموافقة حزب الله وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي، شرط تحييد موضوع سلاح حزب الله وحربه السورية عن أي نقاش جدي.


وللمرة الأولى في تاريخ "الحريرية السياسية" التي أسسها رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري في 1992، خسر تيار المستقبل، الممثل الأكبر للسنّة اللبنانيين، أكثر من نصف مقاعد العاصمة بيروت، وأكثر من نصف مقاعد طرابلس (ثاني أكبر مدينة)، ونصف مقاعد صيدا (ثالث أكبر مدينة)، مسقط رأس آل الحريري، ونصف مقاعد البقاع الغربي، وهي المناطق ذات الغالبية السنّية، لمصلحة خصوم من الطائفة نفسها، فازوا بعشرة مقاعد سنّية مقابل 17 أو 18 لتيار المستقبل من أصل مجموع 27 مقعداً لهذه الطائفة في البرلمان اللبناني وفق التقسيم المذهبي الذي يخصص للشيعة أيضاً 27 مقعداً وللموارنة 34 كرسياً.

وقبل بدء خروج نتائج الانتخابات إلى العلن، بدأ خصوم تيار المستقبل، من حزب الله وحركة أمل والفائزين الجدد ضد آل الحريري، بالتلميح إلى أنه لم يعد يحق للحريري أن يكون المرشح الوحيد لرئاسة الحكومة، بما أنه لم يعد الرمز السياسي الوحيد لطائفته، بل مجرد "متقدّم بين أقوياء"، وهذا تغيير لتقليد سياسي في لبنان حصر رئاسة الحكومة بالحريري وتياره، إلا في حالات انتقالية مع عمر كرامي وسليم الحص ونجيب ميقاتي وتمام سلام، لم تكن سوى استثناءات تثبّت "القاعدة"، أي قاعدة "أحقية" الحريري وحزبه برئاسة الحكومة.

صحيح أن عدد مقاعد التيار العوني لم ينخفض، بل زاد ربما، مع حوالي 25 أو 26 مقعداً، لكنه تلقى خسائر رمزية في مناطق كانت تُعتبر عقر داره، فانخفض عدد الأصوات التي حصدها عدد من رموزه، لتصبح كتلته البرلمانية اليوم مؤلفة بنصفها على الأقل، من حلفاء ومن رجال أعمال، وليس من حزبيين عونيين، وهؤلاء خسروا مقاعد شديدة الأهمية في المناطق ذات الغالبية المسيحية في لبنان (بعبدا، شرق بيروت، وزحلة، شرق لبنان، والمتن، شرق بيروت، وجزين، جنوب لبنان، وكسروان ــ جبيل في شمال بيروت). صحيح أن جبران باسيل، الذي يكاد لا يجد حليفاً وصديقاً في لبنان غير سعد الحريري، فاز بمقعد في مدينته البترون (شمال)، بعد خسارتين كبيرتين له في 2005 و2009، غير أن نواب حزبه نالوا عدد أصوات أقل بكثير مما كان التيار الوطني الحر يتأمله، وخسر عدد كبير منهم في مناطق مهمة جداً بالنسبة للتيار العوني. وبالنتيجة صار عدد من نجوم الكتلة البرلمانية للحزب العوني، عبارة عن رجال أعمال لا علاقة سابقة لهم مع هذا التيار، ويمكن لهؤلاء أن ينقلوا ولاءهم السياسي بسهولة إلى معسكرات أخرى.

في مقابل هذه الخسارة والإنذار، سجل حزب القوات اللبنانية (بقيادة سمير جعجع) انتصاراً كبيراً جداً له ربما يكون الأكبر في هذه الدورة، إذ رفع عدد نوابه الحزبيين من 6 إلى 15، ليصبح منافساً جدياً في الشارع المسيحي لتيار جبران باسيل وعون، على الرغم من أن تحالفات هذا الحزب (القوات) كانت قليلة في المناطق المختلطة طائفياً، خصوصاً بعدما اتهم الحريري جعجع وحزبه، بتأدية دور المحرض عليه لدى السعودية والإمارات خلال أزمة الاستقالة المريبة لسعد الحريري في السعودية في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، بتهمة تقاعس الحريري في مواجهة حزب الله في إحدى أغرب الأحداث السياسية في تاريخ لبنان الحديث.

أما بالنسبة للأطراف السياسية ــ الطائفية الأخرى، فقد حافظ الحزب التقدمي الاشتراكي ذو الغالبية الدرزية تقريباً على وضعه، على الرغم من خسارته التي كانت متوقعة لثلاثة مقاعد وليحتفظ بثمانية مقاعد نيابية، وليبقى جنبلاط أحد أعمدة السلطة الطائفية في لبنان، وأحد أعمدة التوازنات مع رئيس البرلمان وحركة أمل، نبيه بري، في إدارة التسويات وأدوار الوسيط وتدوير الزوايا. كذلك، حصد حزب الكتائب ثلاثة مقاعد (كانت له خمسة)، وهو أقدم الأحزاب المسيحية في لبنان، فيما أطيحت وجوه إقطاعية مسيحية من البرلمان الجديد، مثل بطرس حرب وآل سكاف وآل فتوش وآل شمعون، لمصلحة حزبي القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر.

بناءً على هذه الصورة العامة، صار لبنان أمام سيناريوهات عديدة داخلياً. اهتزت تسوية الحريري ــ باسيل نتيجة خسارة تيار الأول واهتزاز مكانة حزب الثاني، وهو ما يعني أن تيار المستقبل ربما يقرر العودة إلى مصالحة من خاصمهم مثل القوات اللبنانية وحزب وليد جنبلاط على حساب الصداقة والتحالف مع جبران باسيل. وإن شاء سعد الحريري ترؤس الحكومة الجديدة، فهو سيكون بحاجة لظهير سياسي قوي، مثل التيار العوني والقوات اللبنانية والحزب الاشتراكي وحركة أمل مجتمعين، وهو سيكون بحاجة لتقديم تعهدات لحزب الله بأن يكون سقف مواقفه من سلاحه ومن إيران منخفضاً جداً مثلما هو حاله على كل حال منذ سنوات.

لكن حتى لو حُلَّت أزمة هوية رئيس الحكومة، فإن تشكيل الحكومة يرجح أن يكون مهمة شاقة للغاية في ظل العداء السياسي الكبير جداً بين التيار العوني وحركة أمل، وهما طرفان لا يمكن أن تُشكَّل حكومة من دونهما بطبيعة الحال. وبالفعل، فور انتهاء الانتخابات، استأنف نبيه بري حملته ضد جبران باسيل وحزبه، وهو ما يدفع كثيرين إلى توقع أن يتدخّل ربما رئيس الجمهورية ميشال عون لمصالحة صهره (زوج ابنته) أي جبران باسيل مع نبيه بري، لأن الحكومة يصعب أن تتشكل في ظل أجواء عداء مستمرة بين الطرفين وبين الرجلين منذ سنوات، ولا تفعل الأيام سوى زيادة حدّتها.

وفي القراءة الداخلية لحدث الانتخابات، فقد سجل لبنان سابقة تاريخية. فبحسب خبراء الانتخابات، لم يسبق أن طبق بلد قانون انتخابات فيه شيء من النسبية بعد عقود من اعتماد النظام الأكثري، فجاءت نسبة الاقتراع في النظام النسبي نظرياً أقل مما كانت عليه النسبة في آخر دورة جرت على قاعدة النظام الأكثري. هكذا، فضح الناخبون اللبنانيون القانون المعتمد، لأنه لم يكن نسبياً إلا بالاسم، لأن قاعدة "الصوت التفضيلي" فيه كرست القاعدة الأكثرية، فجاءت نسبة الاقتراع ضعيفة، مع 49 في المائة، في مقابل 54 في المائة من المشاركة في آخر دورة اقتراع في عام 2009، وهو ما شكّل صدمة لدى الجميع من دون استثناء في لبنان، ليطلق زعماء تيار المستقبل والتيار العوني حملة ضد الشعب، متهمين إياهم بالخذلان وبالطعن في الظهر وبالبلادة، إلى درجة خرج وزير الداخلية نهاد المشنوق (من رموز تيار المستقبل) وجبران باسيل ليحذرا الناخبين من مغبة "الشكوى" بما أنهم لم يصوّتوا بكثافة.