انقلابُ السيسي شأناً عربياً

08 يوليو 2017
+ الخط -
لم يكن الانقلاب الذي قاده عبد الفتاح السيسي في 3 يوليو/ تموز 2013 مجرد انقلاب عسكري، أطاح الرئيسَ المنتخب محمد مرسي، وأجهض مسار ثورة 25 يناير، وعطّل الانتقال الديمقراطي الواعد، بقدر ما كان، أيضا، نقطةً فارقة في المنطقة، بسبب تداعياته على معظم الثورات العربية.
فاجأت هذه الثورات القوى العربيةَ المحافظةَ، والدوائرَ التي تقف وراءها في الغرب، بما حملته من آمالٍ عريضة في التغيير الاجتماعي والسياسي، والقطع مع الاستبداد والفساد والظلم. وعلى الرغم من الإكراهات السياسية والتنظيمية التي واجهتها، إلا أنها استطاعت أن تُحدث حالةً غير مسبوقة في المنطقة. صحيحٌ أن مسار الأحداث في سورية واليمن وليبيا حَدَّ من إمكانات تحوّلها نحو الديمقراطية، إلا أن الشعوب العربية ظلت متمسكةً بالأمل في تجاوز هذا المأزق الذي بدا مرحليا في حينه.
من هنا، لا مبالغة في القول إن انقلاب السيسي كان تحولا جوهريا، إذ لم يضع، فقط، نقطة نهاية لهذه الحالة، بقدر ما منح هامشا واسعا أمام دوائر الثورة المضادة في المنطقة، لترتيب أوراقها، والعودة إلى مواقعها في السياسة والاقتصاد والإعلام والرأي العام.
لولا هذا الانقلاب، ما كان لخليفة حفتر أن يصبح جزءا أساسيا من المعادلة الليبية المركبة، بعد أن تحوّلت مليشياته إلى عامل مهم في تعطيل المسار السياسي في ليبيا، والإجهاز على مكتسبات ثورة 17 فبراير. وفي تونس، مَثَّلَ إكراها إقليميا أرخى بظلاله على النخب التونسية، وزاد من أعبائها فيما يخص الحفاظ على ما حققته ثورة الياسمين، وتعميق خيارها الديمقراطي. وفي سورية، كان نظام بشار الأسد الذي أوغل، منذ البداية، في قمع الاحتجاجات السلمية، قاب قوسين أو أدنى من الانهيار في النصف الأول من عام 2013. وعلى الرغم من أن دعم إيران وحزب الله قواته كانت له تبعات ميدانية لا يمكن إنكارها، إلا أن تأثير الانقلاب الذي حدث في القاهرة كان فارقا، من حيث دلالاته العميقة بالنسبة للعسكرتاريا السورية التي تشترك، مع نظيرتها المصرية، في خصائص كثيرة، الشيء الذي أتاح لطاغية دمشق الإيغال في هجمته الوحشية على السوريين، هذا طبعا قبل أن تختلط الأوراق بدخول فاعلين جدد، تباينت أجنداتهم واستراتيجياتهم بشأن الأزمة السورية.

في السياق نفسه، لا يمكن إغفال ما أثاره الانقلاب من خيبة أملٍ كبيرة لدى شعوب الجزائر وموريتانيا والسودان، التي كانت تتطلع إلى أن تنضج الشروط التي تسمح لها باجتراح نسخها المحلية من الربيع العربي. منح السيسي للنخب العسكرية المتحكمة في الأقطار الثلاثة هامشا واسعا لإعادة قراءة ميزان القوى الداخلي، وترتيب أوراقها من جديد، في ضوء ما يجري في المنطقة، وبالتالي، فرض هذا على الحركات الاحتجاجية فيها أن تتراجع إلى الوراء، وتراجع حساباتها، بعد أن فقدت غطاء إقليميا كبيرا بحجم الثورة المصرية.
ولأن أي ثورة مضادّة لا بد لها من تمويل، لتنزيل خياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، استغل السيسي تخوفَ القوى المؤثرة في النظام الرسمي العربي (السعودية والإمارات تحديدا) من انتقال عدوى الثورات إلى بلدانها، وعداءَها تنظيم الإخوان المسلمين وامتداداته الإقليمية، ليحصل منها على مساعداتٍ ومنح مالية، مكّنته من البطش بخصومه، والتخلص من حلفائه الذين استدرجهم إلى النزول في مظاهرات 30 يونيو، وتنفيذ حزمة سياساتٍ لم تقد مصر إلا إلى مزيدٍ من الإفلاس الاقتصادي والاجتماعي.
وعليه، يكون انقلاب السيسي نقطة تحول كبرى في ميزان القوى لصالح قوى الثورة المضادة التي سرعان ما جنت عوائد تعثر المسار الانتقالي في سورية واليمن وليبيا، وانحسار الاحتجاجات في معظم بلدان الربيع العربي، نتيجة ارتفاع منسوب الخوف والتردّد في الشارع العربي.
وإذا كان لكل واقعة وجوه متعدّدة، فإنه لا مبالغة في القول إن ما حدث في مصر كان سببا في شيوع انطباع عام في المنطقة بأن حل الإشكالية السياسية العربية يبدأ بعودة العسكر إلى ثكناتهم، والكفّ عن خداع الناس بترهاتهم التي لم تعد تنطلي على الأجيال الجديدة التي باتت، اليوم، أكثر تطلعا إلى بناء أنظمة مدنيةٍ وديمقراطيةٍ وشفافة، لا مكان فيها لنسخ هجينة ومكرورة من بشار الأسد ومعمر القذافي وعلي عبدالله صالح وغيرهم.
أكثر من ذلك، ألحق انقلاب السيسي ضررا بالغا بالصدى الطيب الذي لا تزال تحتفظ به الذاكرة المصرية والعربية بشأن منجزات الثورة الناصرية، فيما يتعلق بإقرار قدرٍ من العدالة الاجتماعية وإنصاف الفقراء، والتمسّك ببناء مشروع وطني مستقل في مواجهة الأطماع التوسعية للاستعمار والصهيونية.
حاول نظام السيسي جاهدا، طوال الأعوام الأربعة المنصرمة، أن يوظف الإرث الناصري (تخليد ذكرى رحيل عبد الناصر، استثمار توسيع قناة السويس، التركيز على إنجازات الجيش المصري...) لكسب دعم المصريين، إلا أن النتائج جاءت معكوسة، هذا على الرغم من التأييد الذي حظي به هذا النظام، سواء من بعض أفراد عائلة جمال عبد الناصر ممن رأوا في الانقلاب استمرارا لثورة 23 يوليو ومنجزات قائدها، أو من شخصياتٍ كانت مقرّبة منه، واعتبرت انقضاض السيسي على السلطة أمرا فرضته الضرورة.
ربما بدا، في لحظةٍ، أن المصريين مستعدون للتخلي عن حلم التحول الديمقراطي، لقاء إقرار عدالةٍ اجتماعيةٍ تنهي تحكّم الجيش والدائرة الضيقة من الرأسمال المصري، في مقدّرات البلد وموارده، غير أنهم سرعان ما أفاقوا على كابوسٍ مُرعب؛ لا عدالة اجتماعية ولا حرية ولا ديمقراطية ولا كرامة، بل لا شيء يشير إلى تغييرٍ يلوح في الأفق، في ظل تنامي السخط الشعبي على السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة. وبذلك يكون هذا النظام أسوأ حالة سياسية في تاريخنا العربي المعاصر.