انعطافة في التاريخ السياسي التركي

17 يناير 2017

رئيس الوزراء التركي يفتتح مناقشات البرلمان التعديلات الدستورية (9/1/2017/الأناضول)

+ الخط -
يبدو أن تركيا ستدخل انعطافة جديدة في تاريخها السياسي الحديث، مع التعديلات الدستورية الجديدة التي ستنقل نظام الحكم في الجمهورية التركية من نظام برلماني إلى رئاسي. وشهدت التحضيرات للتعديلات الدستورية، طوال السنوات الثلاث الماضية، نقاشاتٍ وسجالات وتجاذبات كثيرة بين المناصرين لها داخل تركيا وبين معارضيها، انتقلت من الأحزاب السياسية إلى البرلمان، ومنه ستحال إلى الاستفتاء الشعبي المتوقع إجراؤه في الربيع المقبل.
وفيما يواصل البرلمان التركي استكمال مناقشاته مشروع تعديل 18 مادة دستورية، فإن المتوقع أن تسير الأمور في صالح المناصرين لهذه التعديلات، لأن لحزب العدالة والتنمية الحاكم الذي تقدم بها 317 نائباً، إضافة إلى تأييد معظم نواب حزب الحركة القومية (40 نائباً)، الأمر الذي سيفضي إلى دخول تركيا محطةً تاريخية مهمةً، تحدث قطيعةً مع دستور انقلابيي 1980، ويشبهها بعضهم بالتي حصلت بعد خروجها من حرب الاستقلال عام 1923، وشهدت الانتقال من السلطنة العثمانية إلى دولةٍ ذات نظام الجمهوري، بقيادة مصطفى كمال أتاتورك.
وتحتاج أي مادة في التعديل الدستوري إلى موافقة ثلاثة أخماس أصوات النواب، ليتم إقرارها وتمريرها في البرلمان، أي ما يعادل 330 نائباً على الأقل من إجمالي 550 مقعداً، ومن ثم تعرض على الرئيس التركي للمصادقة عليها، وبعدها ستعرض على استفتاءٍ شعبي خلال 60 يوماً.
وتقترح مواد التعديلات رفع إجمالي عدد النواب في البرلمان من 550 إلى 600، وخفض سن الترشّح للنيابة من 25 إلى 18 عاماً، كما تقترح إجراء الانتخابات البرلمانية في البلاد مرة كل خمسة أعوام، بالتزامن مع إجراء الانتخابات الرئاسية في اليوم نفسه، وتشترط أن يكون سن الترشّح لرئاسة الجمهورية التركية 40 عاماً على الأقل، وأن يكون المُرشح للرئاسة من المواطنين الحائزين على شهادة جامعية، فيما ينتخب الشعب رئيس الجمهورية لمدة خمسة أعوام، ولا يمكن للشخص الواحد أن يُنتخب رئيسًا للجمهورية التركية أكثر من مرتين. كما تنص التعديلات على إلغاء القانون الذي يقضي بقطع صلة رئيس الجمهورية المنتخب عن الحزب الذي ينتمي إليه، وسيتمكّن الرئيس من تعيين أكثر من نائب له، وتعيين نوابه والوزراء من بين الذين تتوفر لديهم شروط الترشّح للنيابة، وإقالتهم. ويشترط على نواب رئيس الجمهورية ووزراء الحكومة، أداء القسم الدستوري أمام البرلمان، ومن المتاح فتح تحقيق مع رئيس الجمهورية استنادًا إلى مقترح تطرحه الأغلبية المطلقة في البرلمان.
وإذا تمكّن مناصرو التعديلات الدستورية من تمريرها تحت قبة البرلمان، وفق التمثيل القائم على مبدأ الأقلية والأغلبية، فإن تركيا ستدخل مرحلة النظام الرئاسي، عبر تغيير مواد دستورها بصورة مؤسسية، مع إثارة غبار كثيف في البيت التركي، المفعم في دائرة صراع وتجاذب تاريخيين، بالنظر إلى طبيعة الهويات المركّبة بين الشرق والغرب، والتي لم تتمكّن علمانية الدولة من حسمها أو تجفيف منابعها الثقافية، على الرغم من عمليات العزل للهويات الاجتماعية
عن الدساتير التي عرفتها الجمهورية التركية، خصوصاً في المراحل التي كانت فيها المؤسسة العسكرية تهيمن على مقاليد الحكم، وتكتم أنفاس الديمقراطية بانقلاباتٍ دموية حفرت عميقاً في ذاكرة المواطن التركي الذي تحرك سريعاً ضد المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف يوليو/ تموز الماضي.
وتهدف التعديلات إلى نقل نظام الحكم من نظام برلماني تمثيلي ذي صلاحيات واسعة إلى نظام رئاسي تنفيذي، يختفي فيه منصب رئيس الوزراء، مقابل تمتع الرئيس بصلاحيات تنفيذية واسعة، حيث سيمسك الرئيس، حسب التعديلات الدستورية، بالسلطات التنفيذية، ويلتحق قائد الأركان به مباشرة، وليس بوزير الدفاع، فيما يعيّن الأخير قادة الجيوش الذين سيكونون تحت أمرته وليس قائد الأركان، إضافة إلى تعيين الرئيس اثني عشر قاضياً من قضاة المحكمة الدستورية العليا الخمسة عشر، وبعض أعضاء اللجنة العليا للقضاء ووكلاء النيابة التي تتولى تعيين القضاة وترقياتهم وتنقلاتهم مع وكلاء النيابة، الأمر الذي اعتبره رئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كيليجدار أوغلو، إرساءً لنظام الرجل الواحد، والحزب الواحد، بينما يجادل أنصار حزب العدالة والتنمية أن التعديلات الدستورية لا تستهدف شكل النظام، بل تغيير شكل العمل الحكومي في تركيا، وإنّ الغاية منها تسريع آليات اتخاذ القرارات وتنفيذها، تفادياً لعراقيل البيروقراطية المُعقّدة. وبالتالي، يستغرب هؤلاء الأنصار الضجيج الذي يُثيره حزب الشعب الجمهوري المعارض للتعديلات الدستورية.
وقد تقدّم حزب العدالة والتنمية الحاكم بمشروع التعديلات الدستورية، مستنداً إلى التربة الاجتماعية والبيئة الثقافية التركية، ذات البعد القومي الممزوح بظلالٍ عميقة من التديّن، خصوصاً في الأرياف وأطراف المدن التي تأثرت بصعود الموجة الدينية في منطقة الشرق الأوسط، في مقابل فقدان القوى العلمانية قوتها الفعلية في البرلمان، بعد أن خسرت الشارع والتأييد الشعبي، مع احتكام الأحزاب التركية إلى الممارسة الديمقراطية التي تحترم إرادة الشعب التركي، وتحترم خياراته.
ويرى مناصرو حزب العدالة والتنمية أنه لا يمكن لحزبهم الحاكم والمنتخب ديمقراطياً أن يتنازل عن إصلاحاته، لأنه يمتلك قوةً مؤثرةً في الشارع أمام ضجيج حزب الشعب الجمهوري المعارض الذي اعتبره الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، محاولةً فاشلةً لعرقلة قرار الإرادة الوطنية واحتكارها، ولن تنجح في قطعِ الطريق على ممارسة المواطن التركي حقّ إعطاء قراره حول الدستور، ودخوله حيّز التنفيذ، ذلك أن المواطن يَعرف من الذي يخدم تركيا، ومن الذي يحاول منعَ انطلاقها في الداخل والخارج.
والحاصل أن ما تشهده تركيا من تطوراتٍ داخل البرلمان يكتسي أهميةً وسط حوار ديمقراطي، يتابعه المواطن، ليحدّد موقفه من التعديلات، والتي تحوّلت إلى مشاداتٍ بين طرفين، جسّدها العراك والاشتباكات والاتهامات المتبادلة بين نوابٍ معارضين للتعديلات وأخرين مناصرين لها، وستكون الكلمة الفصل للمواطن التركي، حين يستفتى على التعديلات التي بلا شك لا تطاول نظام الحكم، بل تذهب إلى إحداث قطيعة مع الدستور الذي فرضه العسكر في 1982.
دلالات
5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".