قد يكون آخر ما يخطر على البال أن تدفع الكراهية مستوطناً إسرائيلياً إلى ترصد طالبة فلسطينية، وملاحقتها في البرِّيّة، ومحاولة قطع طريق وصولها للمدرسة لتقديم أول امتحان في الثانوية العامة "التوجيهي"، في الثلاثين من مايو/ أيار الماضي.
هذه الطالبة هي انشراح أبو جندية (18 عاماً) من قرية طوبا الواقعة ضمن مسافر يطا جنوب الخليل جنوبي الضفة الغربية، من أكثر المناطق المشهود بمناعة أهلها ضد اعتداءات الاحتلال ومستوطنيه.
قبل وقف التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي قبل نحو شهر ونصف، كانت انشراح وباقي طلبة قرية طوبا يمرون من الطريق المختصر إلى مدرستهم في منطقة التواني، وسط مستوطنتي "ماعون" و"خافات ماعون" القريبتين المقامتين على أراضي الفلسطينيين هناك، وبعد وقف التنسيق، وقرب موعد امتحانات الثانوية العامة، اضطرت انشراح أبو جندية للبحث عن طريقٍ آخر للوصول إلى المدرسة، لأن طول الطريق البديلة إلى المدرسة يزيد عن خمسة كيلومترات، ويحتاج قطعها على الأقدام مدة تقارب الساعة والنصف، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المنطقة يميل جزء منها للطبيعة الجبلية، وبالتالي يحتاج قطعها جهداً مضاعفاً، فقررت انشراح ولضمان الوصول قبل موعد بدء الامتحان في تمام التاسعة صباحاً، مغادرة منزل عائلتها، عند السابعة والنصف صباحاً.
تقول انشراح أبو جندية لـ "العربي الجديد": "غادرت بصحبة أخي حمدي (17 عاماً)، الذي قرر مرافقتي خشية تعرضي لاعتداء المستوطنين، وأردت الوصول باكراً إلى قاعة الامتحان، وقد استلمت شقيقتي كفاح (19 عاماً) دورها في مراقبة الطريق لنا، من على قمة جبلية مرتفعة قرب منزلنا، وإبلاغنا بأي خطر محتمل عبر الهاتف، رن الهاتف، وإذ بها تخبرنا أن مجموعة من المستوطنين يقتفون أثرنا، فاضطررنا أنا وحمدي لتغيير الطريق والهرب بالركض، لقد ركضنا مدة نصف ساعة متواصلة، حتى ضمنا أننا أضعنا على المستوطنين فرصة العثور علينا أو اللحاق بنا".
وصلت انشراح إلى المدرسة قبل خمس عشرة دقيقة فقط من بدء الامتحان في مساق التربية الإسلامية، ولم تكن هذه المدة كافية أبداً للراحة، أو مراجعة بعض العناوين في المساق، ومن الطبيعي حينها أن تراود المخاوف قلب الصبية، التي تعثرت قدماها في برية المسافر، قبل الجلوس للإجابة عن أسئلة كثيرة في رأس مشوش، بعد ملاحقة المستوطنين، وتقول انشراح: "دخلت القاعة وأنا متوترة وخائفة، لم أستطع التركيز في الامتحان، وعندما أنهيت الإجابات وغادرت، توقعت الرسوب".
لم تنتهِ التجربة المحفوفة بالمخاطر، عادت انشراح برفقة أخيها حمدي إلى المنزل، كما قدما إلى المدرسة مشياً على الأقدام لمدة ساعة ونصف، وتحت حرارة الشمس التي لا ترحم في مناطق مناخها أقرب للصحراوي في مسافر جنوب الخليل.
وتوضح الطالبة أبو جندية، "وصلت إلى المنزل منهكة، كان يتوجب علي البدء في التحضير للامتحان الثاني، وفي رأسي ما زالت الأفكار الكثيرة حول احتمالية إقدام المستوطنين على ملاحقتي مرة أخرى، كما في أول يوم اختبار".
حاول شقيق انشراح الأوسط أحمد أبو جندية (28 عاماً) تهدئتها، ونصحها بأخذ قسط من الراحة بعد يومٍ عصيب، حيث يقول لـ"العربي الجديد": "كنت أحاول طمأنة انشراح بين الحين والآخر أثناء تقديم الامتحانات، خاصة اليوم الأول الذي لاحقها خلاله المستوطنون، نصحتها بأخذ قسط من الراحة والخلود إلى النوم، بدلاً من التحضير مباشرة للامتحان التالي، وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها انشراح، كما باقي طلبة طوبا، لمثل هذه المواقف".
كرر أحد المستوطنين مطاردة انشراح بعد أيام قليلة في موعد تقديم امتحان التاريخ في الرابع من يونيو/ حزيران الماضي، لكنها نجت بالطريقة نفسها كما المرة الأولى، وقد عاود الكرة في يوم تقدمها لاختبار مادة الرياضيات العاشر من الشهر ذاته.
أُعلنت نتائج الثانوية العامة السبت، ونجحت انشراح، وفشل المستوطنون؛ إذ حصلت على معدل 89.3 في الفرع الأدبي، واحتفل أهلها بنجاحها بإطلاق المفرقعات في جو معتم، فلا كهرباء يسمح بها الاحتلال في تلك المناطق، جلس أفراد عائلتها لالتقاط صورة تذكارية يوم نجاحها أمام منزلهم المبني من الطوب والمهدد بالمصادرة؛ كونه يقع ضمن الأراضي المصنفة (ج)، وتنوي انشراح دراسة تخصص التمريض، لتكون ملاك الرحمة الذي سيحكي شيطنة المستوطنين التي أوصلت الأمور بهم؛ لمحاولة منعها من اجتياز امتحان.. مجرد امتحان اسمه (الثانوية العامة).
و أعلنت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية نتائج امتحان الثانوية العامة "التوجيهي" لهذا العام، وبلغ عدد المتقدمين في الفروع كافة 77539 مشتركاً، وكان عدد الناجحين منهم 55302، بنسبة بلغت 71.32 بالمائة.
وعقد امتحان الثانوية العامة لهذا العام وسط إجراءات السلامة العامة والظروف الاستثنائية التي فرضتها مواجهة فيروسكورونا، وأصبح التباعد بين الطلبة أمرا ملازما، علاوة على أن الكمامة والقفازات والمعقمات أصبحت أدوات جديدة للطلبة في امتحاناتهم إضافة إلى حاجاتهم القرطاسية.
وشهدت الضفة الغربية فرحاً وابتهاجاً بنتائج الثانوية العامة، برغم الإغلاق السائد بشكل متواصل منذ الثالث من الشهر الجاري، والذي فرضته الحكومة الفلسطينية مجدداً لمحاولة منع تفشي فيروس كورونا، بعد ارتفاع لافت في أعداد الإصابات.