قبيل توليه منصب رئاسة الجمهورية، كشف عبد الفتاح السيسي في تسريب صوتي، عن رؤيته تجاه ملفي الدعم والتموين واللذين يستهلكان جانباً مهماً من الموازنة المصرية، إذ قال السيسي في التسريب الذي تم تسجيله في ندوة تثقيفية لضباط القوات المسلحة، إن الرئيس السادات حاول في عام 1977 مواجهة مشاكل مصر بجدية، عبر معالجة الدعم والوقوف أمام مشاكله، منتقداً تخصيص 107 مليارات جنيه لدعم الطاقة و17 مليار جنيه لدعم الخبز.
ويعمل السيسي منذ توليه الرئاسة في يونيو/حزيران 2014، على المضي قدماً في تطبيق رؤيته تجاه ملفي الدعم والتموين، وهو ما أدى إلى استنزاف جيوب المصريين، وتصاعد معاناتهم المعيشية الأمر الذي دفعهم إلى الخروج في تظاهرات موسعة في عدة محافظات، من بينها القاهرة الكبرى والمنيا (جنوب) والإسكندرية وكفر الشيخ (شمال)، بسبب عدم تمكنهم من صرف الخبز المدعم، والذي لم يتبقّ لفقراء مصر غيره قوتاً لعائلاتهم، في ظل تزايد معدلات الفقر وتخلي الدولة عن مسؤوليتها الاجتماعية، كما يقول خبراء ومتخصصون.
السياسات التموينية
في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2014، عمدت الحكومة المصرية إلى تطبيق نظام جديد للتموين عبر استبدال الدعم العيني للسلع بآخر نقدي، من أجل ترشيد الدعم المقدم من الدولة للمواطنين، وتوفير سلع جديدة لحاملي البطاقات التموينية (من 3 سلع إلى 20 سلعة)، غير أن ما جرى على أرض الواقع، هو اختفاء السلع القديمة وإصرار البقالات والجمعيات التموينية على بيع المواطنين سلعاً ذات جودة رديئة، وليسوا بحاجة إليها وبأسعار قريبة من السوق، بحسب استطلاع رأي قام به معد المادة مع ربات منازل يتعاملن مع منظومة التموين.
ووفقا للمنظومة الجديدة والتي تم وصفها بالذكية من قبل الحكومة المصرية، جرى ربط منظومة الخبز بالمنظومة الجديدة للتموين من خلال ما عرف بالبطاقات الذكية، إلى جانب أسطوانات الغاز، غير أنه منذ اليوم الأول عانى المصريون بعد تطبيق المنظومة بسبب عدم توافر عدد كبير جدا من السلع مثل الزيت كما يؤكد العاملون في الجمعيات الاستهلاكية التموينية والبقالون التموينيون، وهو ما تكرر في أسطوانات الغاز والأرز والسكر والذي تعاني مصر من أزمة كبيرة في توفيره، كما يرى بيشوي مجدي الباحث الاقتصادي في الجامعة الأميركية والمدير السابق لوحدة الأبحاث الاقتصادية بالمفوضية المصرية للحقوق والحريات.
"هذا النظام بمثابة تدليس على المواطن"، كما يصفه الباحث الاقتصادي بيشوي، مفسراً ذلك بأن المواطن تم تحميله أعباءً إضافية بموجب هذا النظام، إذ أصبحت الأسر المصرية تحصل على نفس الكميات من السلع التموينية القديمة (الزيت والسكر والأرز)، دون باقي السلع الجديدة لكن ضعف الثمن، على خلاف ما كان يجري في السابق، إذ كان المواطن يحصل على الكميات المقررة من السلع التموينية، بأسعارها المدعمة، بغض النظر عن سعر السلعة في السوق، لذا فإن حديث الحكومة الدائم عن توجيه الدعم لمستحقيه يجب أن يتم تقييمه على ضوء المبلغ المخصص لدعم السلع التموينية لكل مواطن، والبالغ 21 جنيها شهريا للفرد في ظل الارتفاعات الكبيرة في أسعار معظم السلع والخدمات بعد القرارات الاقتصادية الأخيرة مثل تعويم الجنيه ورفع أسعار المواد البترولية المدعمة ورفع تعرفة الكهرباء والمياه وغيرها من القرارات التي أدت إلى رفع معدل التضخم بدرجة كبيرة وإلى وقوع المزيد من الأسر تحت خط الفقر وفقا لما كشفه الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، في عام 2016، إذ تؤكد إحصائيات الجهاز، أن 27.8% من السكان في مصر فقراء ولا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية من الغذاء وغير الغذاء، وأن 57% من سكان ريف الوجه القبلي فقراء مقابل 19.7% من ريف الوجه البحري، وعلى الرغم من هذه الأوضاع الاقتصادية الضاغطة على المواطنين، قلصت وزارة التموين قبل يومين كميات الدقيق الممنوحة للمخابز، التي يتردد عليها بطاقات صرف الخبز الورقية وليس لديهم بطاقات ذكية، بحيث تكفي الكمية لصناعة 500 رغيف يوميا، بدلا من 1500 رغيف كحد أدنى، ما دفع أصحاب المخابز إلى تقليل كميات الخبز المتاحة لغير حاملي البطاقات الذكية، وهو ما أدى إلى وقوع مشاجرات بين العديد من المواطنين وأصحاب المخابز والعاملين فيها.
وبحسب الباحث الاقتصادي بيشوي، فإن مقترح وزير التموين الحالي بتخفيض عدد أرغفة الخبز المستحقة لكل فرد يوميا من 5 إلى 3 أرغفة يدل على توجه الحكومة إلى تخفيض الدعم في المطلق حتى لهؤلاء الذين تطلق عليهم "المستحقين"، ما يساهم في زيادة معاناتهم وحرمانهم من الحياة الكريمة.
محاولات جاهدة لخفض دعم الخبر
شهدت منظومة دعم الخبز محاولات جاهدة لتخفيض الدعم عنها، وهو ما أدى إلى أزمات متوالية، إذ قامت الوزارة عقب تطبيق المنظومة الجديدة لتوزيع الخبز في نوفمبر 2014، بتحديد عدد الأرغفة المستحقة للفرد على البطاقة التموينية بـ 5 أرغفة كحد أقصى، ثم قامت بتخفيض ثمن الرغيف للمخابز من 30 قرشاً للرغيف إلى 26 قرشا، فضلا عن إضافة فروق أسعار السولار التي تحصل عليها المخابز إلى تكلفة إنتاج جوال الدقيق، وهو ما أثر على وزن الرغيف المقدم إلى المستهلك نتيجة ضعف الرقابة على المخابز، وبعد أن قامت الوزارة بإصدار ما يُعرف بالكارت الذهبي، (عبارة عن بطاقة يُصرف بموجبها لأصحاب المخابز دقيقاً يكفي لإنتاج عدد من الأرغفة تترواح بين ألف وحتى 4 آلاف رغيف على حسب طاقة إنتاج كل مخبز من أجل منحهم للمواطنين الذين لا يحملون بطاقات إلكترونية، أو لديهم بطاقات متوقفة أو للمغتربين والوافدين من المحافظات)، قررت الوزارة تخفيض عدد تلك الأرغفة بحد أقصى 500 رغيف لأكبر مخبز من حيث الطاقة الإنتاجية، وهو ما أدى إلى خروج المئات من المواطنين للاحتجاج على عدم توافر الخبز في عدة محافظات مثل القاهرة وكفر الشيخ والمنيا والإسكندرية، قاموا خلال فعالياتهم الاحتجاجية بقطع الطرق الرئيسية وتوقيف حركة السكك الحديدية، إذ حاصرهم النظام بين مطرقة الأوضاع الاقتصادية المتردية، وسندان الجوع.
على نهج السادات
تبنى النظام المصري في مرحلة ما بعد 23 يوليو/ تموز 1952 سياسات دعم السلع الأساسية وتوفيرها للمواطنين، في ظل تأميم المجال العام سياسيا واقتصاديا، وهو ما أدى إلى استقرار نسبي في الأحوال الإجتماعية والاقتصادية للمصريين، حتى جاء الرئيس الراحل أنور السادات والذي تبنى ما يُعرف بسياسة الانفتاح الاقتصادي أو اقتصاد السوق، إلا أن الأمر تم بطريقة عشوائية أدت في مرحلة إلى ما يُعرف بانتفاضة الخبز، كما يقول الباحث بيشوي.
وأعادت مظاهرات المصريين المحتجين على تقليص دعم الخبز في عهد السيسي إلى الأذهان انتفاضة يناير/كانون الثاني عام 1977، حينما خرجت جموع الشعب للاحتجاج على تقليص الدعم على السلع الأساسية وهو ما وصفه الرئيس السادات وقتها على أنه إجراء تقشفي وفق مشروع الموازنة العامة، لكن المصريين لم يحتملوا الأمر وخرجت التظاهرات التي عُرفت بانتفاضة الخبز يوم 18 يناير/كانون الثاني بعد إلقاء الدكتور عبد المنعم القيسوني، نائب رئيس الوزراء للشؤون المالية والاقتصادية خطابا أمام مجلس الشعب بخصوص مشروع الموازنة والذي أعلن فيه تلك الإجراءات التقشفية لتخفيض العجز، وفق شروط صندوق النقد الدولي، والتي كان من بينها رفع سعر الخبز بنسبة 50 % والسكر 25 % والشاي 35 % وكذلك بعض السلع الأخرى، ومنها الأرز وزيت الطهي والبنزين والسجائر، وهو ما قابلته الجماهير بمظاهرات عارمة أطلق عليها الرئيس الراحل أنور السادات انتفاضة الحرامية، إلا أنها استطاعت أن تُجبره وحكومته على التراجع عن ذلك القرار، وهو ما يتكرر خلال هذه الأيام وإن كان بطريقة مختلفة.