انتخابات مغربية بلا فلسفة سياسية‮

21 يوليو 2020
+ الخط -

لم‮ ‬يستطع أحد من مكونات الحقل الحزبي‮ ‬المغربي‮ ‬أن‮ ‬يقترح تأجيل الانتخابات التي‮ ‬تستكمل دورتها التنظيمية في‮ ‬يونيو/ حزيران‮ ‬2021، ‬على الرغم من الوضع الاستثنائي‮ ‬الذي‮ ‬تعيشه البلاد بسبب الجائحة، وبسبب التعبئة الوطنية العليا التي‮ ‬ترافق هذا التدبير‮.‬ وهو بحد ذاته تحوّل في‮ ‬الثقافة السياسية، وفي‮ ‬مقاربات التواصل السياسي‮ ‬المغربي،‮ ‬وقد أخبر وزير الداخلية الزعماء السياسيين، في‮ ‬لقاء في‮ ‬منتصف شهر يوليو/ تموز الجاري، بأن‮ "الاستحقاقات ستجري‮ ‬ولو بالكمامات"‮!‬ فقد صار من المتوافق عليه‮ ‬أن تجري‮ ‬الاستحقاقات، التشريعية منها والمحلية، في‮ ‬احترام تام لانتظاميتها‮.‬ ‬أضف‮ ‬إلى ذلك أن دستور المغرب‮ ‬يجعل دورية الاستحقاقات مسألة بنيوية في‮ ‬التداول المؤسساتي‮، ‬فقد نص الفصل‮‬ الـ62‮ ‬ على أنه‮ "‬ينتخب أعضاء مجلس النواب بالاقتراع العام المباشر لمدة خمس سنوات،‮ ‬وتنتهي‮ ‬عضويتهم عند افتتاح دورة أكتوبر من السنة الخامسة التي‮ ‬تلي‮ ‬انتخاب المجلس‮". ‬وبذلك‮، ‬يبدو التوقيت الانتخابي‮ ‬دستورياً محدّداً، ولا هوامش فيه‮.‬

نص الدستور المغربي على أنه‮ "‬ينتخب أعضاء مجلس النواب بالاقتراع العام المباشر لمدة خمس سنوات،‮ ‬وتنتهي‮ ‬عضويتهم عند افتتاح دورة أكتوبر من السنة الخامسة التي‮ ‬تلي‮ ‬انتخاب المجلس‮"

وكان المغرب أيضاً قد عاش جزءاً من العشوائيات الانتخابية، عندما كانت الخريطة السياسية تُصنع،‮ ‬والتوقيت‮ ‬يخضع لاعتباراتٍ لا علاقة لها بالتداول الطبيعي‮ ‬داخل المؤسسات،‮ ‬كما حدث، في‮ ‬مرّات عديدة، عندما كانت تؤجل أو تعجل قبل أوانها‮.‬ والمرة الوحيدة التي‮ ‬أجريت فيها قبل وقتها،‮ ‬لاعتبارات استراتيجية كبرى،‮ ‬حدثت عندما عرفت البلاد موجتها من الربيع العربي‮ ‬في‮ ‬فبراير/ شباط‮ ‬2011. وقتها، أُجريت انتخابات سابقة لأوانها، وسقطت حكومة زعيم حزب الاستقلال، عباس الفاسي،‮ ‬‬وحملت الموجة العميقة الإسلاميين المنضوين تحت لواء‮ "‬العدالة والتنمية‮" ‬إلى الحكم‮. ‬وصدقت نبوءة وزير الداخلية وقتها، إدريس جطو، وهو‮ ينصح الأمين العام للحزب آنذاك، عبد الإله بنكيران، قائلاً: "‬لا تجدّفوا، فالموجة آتية بكم‮"… ‬مع الفيروس كوفيد‮‬19‮ ‬ الذي‮ ‬زلزل العالم،‮ ‬كان النقاش في‮ ‬الأوساط السياسية والحزبية، وفي‮ ‬أعماق الدولة،‮ ‬يتمحور حول السؤال: هل سيتأثر‮ ‬تاريخ إجراء الاستحقاقات‮ ‬بالشروط الجديدة للوباء؟ وبدأت التوقعات،‮ ‬بين من‮ ‬يرى الضرورة بتعجيلها،‮ ‬وهم في‮ ‬الغالب الذين‮ ‬يرون أن الحكومة أبانت عن ضعف شديد في‮ ‬تدبير الأسابيع الأولى من الجائحة،‮ ‬أو كانوا‮ ‬يتوسّمون في‮ ‬أنفسهم الأهلية بخوضها بقوة أكبر‮‬،‮ ‬وبين من كان‮ ‬يرى تأجيلها إلى حين تتضح الأمور أكثر‭.‬‮

ولعل جزءاً من النقاش سبق خوضه،‮ ‬سواء تعلق الأمر بالعتبة، أو بالتقطيع الانتخابي‮ ‬للدوائر، أو بالنظام المعتمد،‮ ‬الفردي‮ ‬منه أو اللائحي‮... ‬إلخ‮.‬ ولعل الجديد فيه، ‬هو الأرقام والنسب، بين من‮ ‬يدعو إلى ضرورة تخفيض عتبة الفوز بالمقاعد ومن‮ ‬يدعو إلى إلغائها أو الرفع منها،‮ ‬خصوصاً بين الأحزاب التي‮ ‬تقول إنها كبيرة،‮ ‬تعتبر أن طريقة رفع العتبة إلى10‮ ‬٪‮ ‬بإمكانه حل معضلة البلقنة السياسية وتشتت المشهد الحزبي،‮ ‬وبالتالي‮ ‬يساعد على تشكيل حكومات مجمعة من حزبين أو ثلاثة، عوض كتل أحزاب متنافرة في‮ ‬غالب الأحيان‮.‬

قضايا الفساد الانتخابي‮ ‬واستغلال الدين واستعمال المال المشبوه من الأشياء التي‮ ‬تنشط النقاش السياسي‮ ‬مع كل انتخابات

مرّت على المغرب قرابة ستة عقود منذ‮ ‬الاستقلال،‮ ‬وإلى الساعة، لم‮ ‬يفرز النظام الانتخابي،‮ ‬والنقاش السياسي‮ ‬ومسيرة طويلة وعسيرة من الديمقراطية المتنازع حولها،‮ ‬قواعد لعب نهائية ودائمة في‮ ‬الزمن،‮ ‬يمكن أن تستمر البلاد على إيقاعها، وتستقر بواسطتها في‮ ‬دينامية اقتراعية سياسية‮ ‬متعارف عليها، كما هو حال الدول التي‮ ‬اختارت أنظمة انتخابية نهائية‮‬،‮ و‬لا سيما في‮ ‬الغرب الأوروبي‮ ‬الذي‮ ‬يشكل مصدر استلهام سياسي‮ ‬بالنسبة إلى النخب المغربية‮‬‭.‬
وعلى الرغم من أن قضايا الفساد الانتخابي‮ ‬واستغلال الدين واستعمال المال المشبوه من الأشياء التي‮ ‬تنشط النقاش السياسي‮ ‬مع كل انتخابات،‮ ‬فإن الشكل الأسمى والأنجع، في‮ ‬محاربة هذه المظاهر المخلّة بالديمقراطية وسلاسة التصويت في‮ ‬البلاد،‮ ‬لا‮ ‬يحظى بالحرارة التي‮ ‬صاحبت النقاش حول الانتخاب باللائحة،‮ مثلاً الذي‮ ‬جاءت به حكومة التناوب السياسي‮ ‬الأولى في‮ ‬تسعينيات القرن الماضي‮، ‬وقادها معارض كبير للحكم،‮ ‬هو الفقيد عبد الرحمن اليوسفي‮.‬ ويبدو المشهد السياسي‮ ‬اليوم كما لو أن الانتخابات تجري‮ ‬بدون خلفية عميقة،‮ ‬كما لو أنها بدون فلسفة سياسية‮، ‬اللهم إلا من الأحلام التي‮ ‬تراود بعض القوى‮ في‮ ‬تقويض أخرى ولعب دورها،‮ ‬خصوصاً مع‮ ‬الصلاحيات والسلطات التي‮ ‬صارت اليوم لرئيس الحكومة،‮ ‬الذي‮ ‬أضحى‮ ‬يقتسم جزءاً من السلطة الحقيقية في‮ ‬الممارسة‮.‬ ومن المحقق، ‬أن العمل من أجل تقويض قوة سياسية بعينها‮ ‬لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يشكل برنامجاً مقنعاً ومعبّأً،‮ ‬في‮ ‬سياق وطني‮ ‬مشوّش‮ ‬كثيراً، وأولوياته أكثر مما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يفسره عمل أحادي‮.‬ وسيكمن المشكل الأكبر في‮ ‬إقناع المغاربة،‮ ‬مرشحين وناخبين، بالدخول في‮ ‬أجواء انتخابية،‮ ‬في‮ ‬سياق وطني‮ ‬ودولي‮ ‬وإقليمي‮ "‬مكمم‮"‬،‮ ‬ثم التوجه إلى صناديق الاقتراع في‮ ‬ظرف سنة،‮ ‬في‮ ‬بلادٍ‮ ‬لا شيء‮ ‬يؤكد أنها ستعود إلى إيقاعها العادي‮ ‬أو الطبيعي‮ ‬خلال شهور قليلة‮.‬

المرة الوحيدة التي‮ ‬أجريت فيها الانتخابات في المغرب قبل وقتها،‮ ‬لاعتبارات استراتيجية كبرى،‮ ‬حدثت عند موجة الربيع العربي‮ ‬في‮ ‬فبراير‮ ‬2011

كان المغرب قد قام بتوقعات استشرافية،‮ ‬بناءً على دعوة‮ ‬منه في عام‮ ‬2003، وأُطلق وقتها مشروع جماعي‮ ‬لقراءة خمسين من تاريخه، واستشراف أفق‮ ‬2025. ‬ومن المهم اليوم أن يُذكر أن أحد مداخل هذا الأفق ‬القريب هو انتخابات‮ ‬يونيو/ حزيران المقبل، ‬ولعل التوصية الأساسية التي‮ ‬صاغها جمع من المثقفين والباحثين والسياسيين تحت إشراف المستشار الملكي‮ ‬الراحل، مزيان بلفقيه،‮ ‬توطيد الممارسة السياسية العادية‮، ‬وتقوية التماسك الوطني‮ ‬وتحسين نظام الحكامة‮.‬ ومن ثمّة، فإن المغرب،‮ ‬من وراء الرهان الحالي‮ "ليس عليه فقط أن‮ ‬يستكمل انتقاله الديمقراطي‮،‮ ‬بل وأن‮ ‬يستقر دائماً في‮ ‬إطار الممارسة السياسية العادية‮". ‬والأهم في‮ ‬ذلك، إعادة الاعتبار للالتزام السياسي‮، ‬بوصفه فعلاً وطنياً،‮ ‬وليس فعلاً انتخابياً‮ ‬للارتقاء أو الغنيمة‭.

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.