28 أكتوبر 2024
انتخابات مصر "شغل سيما"
نظّمت الانتخابات الرئاسية المصرية، بعد تجييش دعائي شاركت فيه كل مؤسسات الدولة. فمن دعاية الوزارات وجهودها في تشكيل لجان دعائية وأخرى لحشد الموظفين، ومراقبتهم بهدف المشاركة، إلى إقامة مؤتمرات شعبية حاشدة تؤيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتبايعه لفترة جديدة، وإلى مؤتمرات المحافظين الذين وعد عدد منهم بخدماتٍ للمناطق الأكثر تصويتا. وأعلن آخرون عن جوائز للمواطنين "الشطار" الذين سيشاركون في الانتخابات، بينما وعدت بعض إدارات التعليم بدرجات أعلى للطلاب المشاركين في الانتخابات. ومن وعود الوزارات والمحافظين إلى وعود قادة النقابات الصفراء بحل مشكلات العمال.
إلى جانب حشد الدولة للمشاركة في الانتخابات، هناك جزء من المشهد تصنعه مجموعات المصالح الاقتصادية والسياسية، والتي كلفت مؤتمراتها قبل الانتخاب ملايين سخية بحكم أنهم مستفيدون من السياسات الاقتصادية التي يطبقها النظام. لذا حرص هؤلاء على استكمال جهودهم مع بداية التصويت، نظموا حشودا محدودة نقلت من المنازل إلى اللجان، وجمعوا مواطنين فقراء عبر الرشاوى الانتخابية. وبمساعدة بعض الأحزاب، والحملات الدعائية، نظمت أمام أغلب اللجان، مشاهد الرقص والغناء على أنغام وأغانٍ شعبية أغلبها صاخبة.
استمر أغلب أعضاء مجلس النواب في إخلاصهم للجهات التي جاءت بهم إلى المجلس، فمن المؤتمرات الجماهيرية قبل الانتخابات، إلى حملات الدعاية التي طافت الشوارع في أول أيام التصويت، بل أشرف جزء منهم على عملية الحشد بشتى الطرق.
جهد مكثف في الحقيقة بذلته كل الأطراف التي تشكل المجموعات الحاكمة، فمن صرف أموال
طائلة للدعاية والنقل والرشاوى، إلى توظيف كل وسائل الإعلام، إلى ممارسة سياسة الترهيب والتخويف والعقاب، كل هذا من أجل هدف واحد رسم صورة الشعب الذي ينتخب، ويصطف في الطوابير، ويرقص، ويغني ويحتفي بتنصيب السيسي لفترة مقبلة.
على الرغم من أن الرقص أداة تعبير مبهجة وتشاركية، إلا أن الرقص في حد ذاته لا يخفي خفوت المشاركة، والتي دلت عليها أرقام المشاركين في بعض اللجان خلال اليوم الأول. ولأن ضعف المشاركة كان متوقعا، فإن رجال النظام حاولوا رسم مشاهد لحشودٍ حملت خصيصا لالتقاط الصور الصحافية، وبث وصلات الرقص مدفوعة الثمن. ربما يشير الرقص إلى الفرح، لكن المنهج السلطوي، والذي دفع قطاعات من الدولة ورجال الأعمال إلى تحذير العمال والموظفين من عدم المشاركة، لا ينبئ إلا عن قهر، وتقديم الرشاوى للفقراء من أجل المشاركة والتصويت يصيب بالحزن والخجل من بؤس أحوال هؤلاء، والوعود بمنح المصوتين تخفيضات على الملاهي والمتنزهات، والسلع في بعض المحال التجارية، يشعرك بمدى المهزلة.
ليست مشاهد الدعاية التلفزيونية كافية، ولا التوعية بالمشاركة مجدية، ولا حتى الاستجداء والتخويف بمصير سورية والعراق، أو هدم الدولة يكفي. لذا استخدمت أدوات الضغط السلطوي على قطاعات من الموظفين، ليخرجوا جماعاتٍ للتصويت، وإن كانت إحدى الفئات المستهدف حشدها، العمال، بحكم إمكانية السيطرة عليها، فإن كتل النساء كانت الأكثر استهدافا، وقد حشدت جموع منهن بالفعل بوسائل عدة، منها المساعدات المالية، أو الخطاب العاطفي، والتهديد بأن خيار المقاطعة يعني الانضمام إلى صفوف أعداء الوطن، ونتيجته هدم الدولة، ومصير الوطن ومستقبله معلق بمشاركة النساء، وإن لم تشارك بالقدر الكافي سوف نكون مهدّدين بمصير دول أخرى، تحديدا سورية والعراق، والتي تنتهك فيها كرامة النساء وأعراضهن، وتفتقد الدولتان للأمان.
كادت لافتات التأييد تغطي عين الشمس، وتحجب نورها عن شوارع القاهرة خصوصا، أغلبها نصبت بتوجيه من أجهزة الإدارة المحلية، والتي تمتلك سلطة الرقابة على المنشآت والمحال التجارية، لسان حال أغلب أصحاب المحال أن لافتة التأييد على واجهة المحل، أو في الشارع، ربما تبعدني عن احتمالات إقرار غرامات استنادا إلى أحد القوانين، أو حتى بدون سند تشريعي.
يوضح المشهد أن سلطة الخوف تحكم مناحي الحياة السياسية، ومن ضمنها الانتخابات، بحكم أن الخوف أصبح العنوان العريض، والسياسة العليا التي تحكم الشارع المصري، ولا يعلوه قانون، كما أنه الشعور السائد في مصر، حتى أن المذيعة ساندرا نشأت، في فيلمها التلفزيوني الدعائي "شعب ورئيس"، أوضحت هذه المشكلة بعبارات خاطفة على لسان عدة مواطنين في أكثر من مشهد. وقد نفى السيسي الخوف في رده على سؤال بشأن الشعور السائد بالخوف، لكن ممارسات النظام تؤشر إلى أنه يحاول، بكل السبل، دعم قدراته في ضبط إيقاع المجتمع كما يريد. مرات بالحجب والحصار والكبت والمطالبة بالصمت، ومرات يلجأ النظام للجمهور، ويطالبه بالمشاركة في الانتخابات ليستمر حكمه. وهكذا يظهر النظام متناقضا حتى في الفيلم الذي حاولوا فيه رسم صورة بكاميرات الزوم تقرّب المسافة التي تباعدت بين النظام والشعب، لكن الفيلم يكشف من خلال استخدامه منطقا مغلوطا، وتبريرا متكرّرا أن المسافة بين الواقع المعاش والأمل في التغيير بعيدة، وأن المؤثرات الموسيقية والحركية لحظية التأثير في مشاهد الفيلم.
مثل الخوف بالنسبة للنظام في مصر ومؤيديه أداة لتحفيز المواطنين على المشاركة في الانتخابات، فبدون مشاركتهم سيتعرّض الوطن لمخاطر عدة، بينما ذهب مثقفو السلطة إلى أن الانتخاب حق مكتسب، لا يمكن التفريط فيه، وأنه استحقاق ديمقراطي، وواجب وطني، دفاعا عن الوطن.
كان الخوف من المقاطعة الدافع وراء تكثيف جهود النظام والمجموعات الحاكمة لتحفيز
المواطنين على المشاركة في الانتخابات، الخوف من ضياع الدولة وهدمها في حالة المقاطعة كان الشعار المتكرّر لحث المواطنين للنزول، وخوف النظام من محدودية المشاركة واتساع ظاهرة المقاطعة أربكه، خصوصا بعد ما لحق بكتل من الفقراء والطبقة الوسطى من أذى اقتصادي، وما شهده المجتمع من ممارساتٍ قمعية تحاصر المجال العام، وتعادي المنخرطين في أي نشاط سياسي، ناهيك عن الذين حاولوا تقديم أنفسهم بديلا للنظام، وتم إخراسهم أو سجنهم.
شغلت تفكير المواطنين قبل الانتخابات قضيتان أساسيتان، الأزمة الاقتصادية وحالة الحصار والترقب، وانتهاك الحريات التي تعرّض لها مصريون عديدون، فلا حرية تلمح حتى في الأحاديث العابرة على المقاهي. ولهذا تناولت ساندرا نشأت، في فيلمها الدعائي "رئيس وشعب"، بشكل مقصود، الأزمة الاقتصادية، وقضية الحريات، بينما كان الرد عليهما بالثنائية المعهودة، النفي والتبرير، فالنظام لم يمنع أحدا من إبداء الرأي. لكنه يتصدّى لأعمال العنف، وكان آلاف المعتقلين في السجون قد تمت إدانتهم في أعمال عنف تستوجب المحاكمة والسجن. أما الجانب الاقتصادي فقد تم تبريره بأنه إجراء واجب النفاذ، والبديل كان سقوط الدولة، مع اعتراف النظام بأنه دواء مر، لكن أحدا لا يحدثنا عن نتائج هذا الدواء، وما نتيجة تطبيق سياسات التقشف وفرض الضرائب ورفع أسعار السلع منذ التسعينيات، والتي تسمى دواءً مرّا. هل حدث تحسن وتعاف اقتصادي، وهل هذا الدواء مخصص للفقراء وشرائح الطبقة الوسطى، وهل هذه المراراه التي يجرّبها الفقراء من الشعب، محرّمة على الأثرياء، أصحاب الثروات. لماذا يريدون أن يتحمل أغلب الشعب المصري المرّ والألم، وهو مبتسم وراضٍ، بل يريدون أن يذهب إلى الانتخابات، ليصوت ويرقص في مشهدٍ أقرب إلى الأفلام التي يسميها المصريون "شغل سيما".
إلى جانب حشد الدولة للمشاركة في الانتخابات، هناك جزء من المشهد تصنعه مجموعات المصالح الاقتصادية والسياسية، والتي كلفت مؤتمراتها قبل الانتخاب ملايين سخية بحكم أنهم مستفيدون من السياسات الاقتصادية التي يطبقها النظام. لذا حرص هؤلاء على استكمال جهودهم مع بداية التصويت، نظموا حشودا محدودة نقلت من المنازل إلى اللجان، وجمعوا مواطنين فقراء عبر الرشاوى الانتخابية. وبمساعدة بعض الأحزاب، والحملات الدعائية، نظمت أمام أغلب اللجان، مشاهد الرقص والغناء على أنغام وأغانٍ شعبية أغلبها صاخبة.
استمر أغلب أعضاء مجلس النواب في إخلاصهم للجهات التي جاءت بهم إلى المجلس، فمن المؤتمرات الجماهيرية قبل الانتخابات، إلى حملات الدعاية التي طافت الشوارع في أول أيام التصويت، بل أشرف جزء منهم على عملية الحشد بشتى الطرق.
جهد مكثف في الحقيقة بذلته كل الأطراف التي تشكل المجموعات الحاكمة، فمن صرف أموال
على الرغم من أن الرقص أداة تعبير مبهجة وتشاركية، إلا أن الرقص في حد ذاته لا يخفي خفوت المشاركة، والتي دلت عليها أرقام المشاركين في بعض اللجان خلال اليوم الأول. ولأن ضعف المشاركة كان متوقعا، فإن رجال النظام حاولوا رسم مشاهد لحشودٍ حملت خصيصا لالتقاط الصور الصحافية، وبث وصلات الرقص مدفوعة الثمن. ربما يشير الرقص إلى الفرح، لكن المنهج السلطوي، والذي دفع قطاعات من الدولة ورجال الأعمال إلى تحذير العمال والموظفين من عدم المشاركة، لا ينبئ إلا عن قهر، وتقديم الرشاوى للفقراء من أجل المشاركة والتصويت يصيب بالحزن والخجل من بؤس أحوال هؤلاء، والوعود بمنح المصوتين تخفيضات على الملاهي والمتنزهات، والسلع في بعض المحال التجارية، يشعرك بمدى المهزلة.
ليست مشاهد الدعاية التلفزيونية كافية، ولا التوعية بالمشاركة مجدية، ولا حتى الاستجداء والتخويف بمصير سورية والعراق، أو هدم الدولة يكفي. لذا استخدمت أدوات الضغط السلطوي على قطاعات من الموظفين، ليخرجوا جماعاتٍ للتصويت، وإن كانت إحدى الفئات المستهدف حشدها، العمال، بحكم إمكانية السيطرة عليها، فإن كتل النساء كانت الأكثر استهدافا، وقد حشدت جموع منهن بالفعل بوسائل عدة، منها المساعدات المالية، أو الخطاب العاطفي، والتهديد بأن خيار المقاطعة يعني الانضمام إلى صفوف أعداء الوطن، ونتيجته هدم الدولة، ومصير الوطن ومستقبله معلق بمشاركة النساء، وإن لم تشارك بالقدر الكافي سوف نكون مهدّدين بمصير دول أخرى، تحديدا سورية والعراق، والتي تنتهك فيها كرامة النساء وأعراضهن، وتفتقد الدولتان للأمان.
كادت لافتات التأييد تغطي عين الشمس، وتحجب نورها عن شوارع القاهرة خصوصا، أغلبها نصبت بتوجيه من أجهزة الإدارة المحلية، والتي تمتلك سلطة الرقابة على المنشآت والمحال التجارية، لسان حال أغلب أصحاب المحال أن لافتة التأييد على واجهة المحل، أو في الشارع، ربما تبعدني عن احتمالات إقرار غرامات استنادا إلى أحد القوانين، أو حتى بدون سند تشريعي.
يوضح المشهد أن سلطة الخوف تحكم مناحي الحياة السياسية، ومن ضمنها الانتخابات، بحكم أن الخوف أصبح العنوان العريض، والسياسة العليا التي تحكم الشارع المصري، ولا يعلوه قانون، كما أنه الشعور السائد في مصر، حتى أن المذيعة ساندرا نشأت، في فيلمها التلفزيوني الدعائي "شعب ورئيس"، أوضحت هذه المشكلة بعبارات خاطفة على لسان عدة مواطنين في أكثر من مشهد. وقد نفى السيسي الخوف في رده على سؤال بشأن الشعور السائد بالخوف، لكن ممارسات النظام تؤشر إلى أنه يحاول، بكل السبل، دعم قدراته في ضبط إيقاع المجتمع كما يريد. مرات بالحجب والحصار والكبت والمطالبة بالصمت، ومرات يلجأ النظام للجمهور، ويطالبه بالمشاركة في الانتخابات ليستمر حكمه. وهكذا يظهر النظام متناقضا حتى في الفيلم الذي حاولوا فيه رسم صورة بكاميرات الزوم تقرّب المسافة التي تباعدت بين النظام والشعب، لكن الفيلم يكشف من خلال استخدامه منطقا مغلوطا، وتبريرا متكرّرا أن المسافة بين الواقع المعاش والأمل في التغيير بعيدة، وأن المؤثرات الموسيقية والحركية لحظية التأثير في مشاهد الفيلم.
مثل الخوف بالنسبة للنظام في مصر ومؤيديه أداة لتحفيز المواطنين على المشاركة في الانتخابات، فبدون مشاركتهم سيتعرّض الوطن لمخاطر عدة، بينما ذهب مثقفو السلطة إلى أن الانتخاب حق مكتسب، لا يمكن التفريط فيه، وأنه استحقاق ديمقراطي، وواجب وطني، دفاعا عن الوطن.
كان الخوف من المقاطعة الدافع وراء تكثيف جهود النظام والمجموعات الحاكمة لتحفيز
شغلت تفكير المواطنين قبل الانتخابات قضيتان أساسيتان، الأزمة الاقتصادية وحالة الحصار والترقب، وانتهاك الحريات التي تعرّض لها مصريون عديدون، فلا حرية تلمح حتى في الأحاديث العابرة على المقاهي. ولهذا تناولت ساندرا نشأت، في فيلمها الدعائي "رئيس وشعب"، بشكل مقصود، الأزمة الاقتصادية، وقضية الحريات، بينما كان الرد عليهما بالثنائية المعهودة، النفي والتبرير، فالنظام لم يمنع أحدا من إبداء الرأي. لكنه يتصدّى لأعمال العنف، وكان آلاف المعتقلين في السجون قد تمت إدانتهم في أعمال عنف تستوجب المحاكمة والسجن. أما الجانب الاقتصادي فقد تم تبريره بأنه إجراء واجب النفاذ، والبديل كان سقوط الدولة، مع اعتراف النظام بأنه دواء مر، لكن أحدا لا يحدثنا عن نتائج هذا الدواء، وما نتيجة تطبيق سياسات التقشف وفرض الضرائب ورفع أسعار السلع منذ التسعينيات، والتي تسمى دواءً مرّا. هل حدث تحسن وتعاف اقتصادي، وهل هذا الدواء مخصص للفقراء وشرائح الطبقة الوسطى، وهل هذه المراراه التي يجرّبها الفقراء من الشعب، محرّمة على الأثرياء، أصحاب الثروات. لماذا يريدون أن يتحمل أغلب الشعب المصري المرّ والألم، وهو مبتسم وراضٍ، بل يريدون أن يذهب إلى الانتخابات، ليصوت ويرقص في مشهدٍ أقرب إلى الأفلام التي يسميها المصريون "شغل سيما".