اليمن.. ما تفعله بنا الحرب
عندما يخوض مجتمع ما تجربة الحرب، خصوصاً حرباً داخلية، على اختلاف وقائعها وأسبابها والقوى السياسية الفاعلة فيها، وارتباطاتها المحلية والخارجية، فإن الحرب تخلف أضراراً إنسانية ومادية فادحة على المواطنين والدولة، وعلاوة على هذه الأضرار، وحتى بعد قرار إيقاف الحرب، يكون صعباً على المجتمع العودة إلى ما قبلها، ومن المفارقات الساخرة أن أوضاع المجتمع قبل الحرب، والتي هيأت ظروف اندلاع الحرب، تصير بعدها أمنية بعيدة المنال.
خاض المجتمع اليمني حروباً أهلية، فرضتها عليه القوى السياسية اليمنية، ودفع كلفاً بشرية ومادية باهظة من قتلى وجرحى ومخفيين قسراً. لكن الحرب الراهنة في اليمن هي الأكثر عنفاً وتعقيداً، فمن جهة، تشهد البلاد حربين، داخلية وخارجية. ومن جهة أخرى، تلعب تراكمات الحروب السابقة عاملاً محفزاً لعنف وتعقيد المأساة اليمنية التي بالكاد بدأت، وقد لا يمكن إيقافها قريباً؛ ففي كل دورة من دورات الحروب اليمنية السابقة، لم يعمل المجتمع، ولا السلطات السياسية المتعاقبة، على إزالة أسباب الصراعات، ولم تجرِ أي معالجات حقيقية لحل الاحتقانات الاجتماعية والسياسية التي خلفتها الحروب؛ والنموذج الأقرب يتمثل في الخفة التي أدارت بها السلطة الانتقالية البلاد، وعدم معالجتها لأسباب المشكلات الوطنية والاحتقانات الأهلية، والاكتفاء بترحيلها عبر تسوية سياسية للفرقاء السياسيين، ولم تفضِ سياسات وإجراءات سلطة "الإجماع"، أو سلطة "التوافق"، سوى إلى عزل المجتمع اليمني، مرة أخرى، في حالة السلم، والوقوف عقبة أمام حقه في التعافي.
لم يتعاف المجتمع اليمني من آثار الدمار النفسي والاجتماعي والاقتصادي الذي عاناه طويلاً، وتفرض عليه، اليوم، حرب أعنف وأقسى من كل الحروب التي خاضها، فهي تخاض على جبهتين: خارجية، ممثلة بتحالف "عاصفة الحزم" التي تدخلت عسكرياً لإعادة شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، وضداً من تحالف جماعة الحوثي والرئيس السابق علي عبدالله صالح اللذيْن انقلبا على التسويات السياسية التي تم إنجازها في المرحلة الانتقالية، وسيطرا على السلطة السياسية في اليمن، وجبهة داخلية، تخوضها جماعة الحوثي وقوات صالح ضد أهالي المدن اليمنية، لمحاولة إخضاعها بالقوة، ما استدعى تخلق مقاومة أهلية مسلحة لصد هذا العدوان.
في مقابل "عاصفة الحزم"، وبالتوازي معها، تخوض الشرائح الاجتماعية الموالية للحوثي وصالح حربها الداخلية، ليس بدوافع وطنية، ودفاعاً عن فكرة السيادة الوطنية، أو بدعاوى عدم الاعتراف بشرعية هادي، كما يروج إعلامهما، وإنما لدوافع شخصية وأيديولوجية خاصة، حيث تكمن دوافع الشرائح الاجتماعية الموالية للحوثي في حاجتها للانتماء لقوة على الأرض، والاحتماء بها، والاعتقاد كذلك بالجماعة جبهة ممانعة ومقاومة، على غرار نموذج حزب الله في لبنان؛ في حين تكمن دوافع الشريحة الموالية لصالح في تضرر مصالحها من ثورة 2011 التي عزلتها سياسياً واقتصادياً، ولو جزئياً. ويبدو أن منظومة المصالح الجديدة لم ترضِ تطلع قطاع كبير من الموالين لصالح، حتى من وجدوا لهم موقعاً ومصالح في السلطة الجديدة. ولذلك، عادوا إلى الانخراط في جبهة صالح بسرعة انسلاخهم عنها نفسها، ويرى الموالون لصالح في هذه الحرب فرصة لاستعادة حضورهم المجتمعي والسياسي.
وتجعل تعقيدات تحالفات جبهة الحرب الداخلية المجتمع اليمني، في صورته النهائية، في حالة احتراب ضد بعضه، بصيغ متعددة، حرب مع "عاصفة الحزم" أو ضدها، حرب مناطقية في الجنوب، وطائفية في الوسط، مع الاحتفاظ بترويستين مختلفتين لهذا الاحتراب اليمني، بالدفاع عن شرعية هادي، أو برفض انتهاك السيادة اليمنية. وفي الأثناء، يتجه الوضع اليمني إلى مزيد من التدهور على الأصعدة كافة، ما سيعجل من حدوث كارثة إنسانية متحققة بحسب وقائع الأرض في أكثر من جبهة؛ في حين تستمر المعارك بين المتصارعين، وتتضاعف كلفة الحرب على اليمنيين. ووفقاً لأحدث إحصائية لمنظمة بيت الحرية العاملة في اليمن، التابعة للاتحاد الأوروبي، بلغ عدد الضحايا 2571 قتيلاً، منهم 381 طفلاً وطفلة و214 امرأة، و3897 جريحاً، منهم 618 طفلاً وطفلة و455 امرأة، وتم قصف 334 تجمعاً سكانياً، وهدم 2265 منزلاً منها 91 مسكناً تم تدميرها على ساكنيها، وبسبب استمرار القصف الصاروخي والاشتباكات المسلحة في المناطق السكانية، نزحت أكثر من 35 ألف أسرة من منازلها، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تتفاقم يومياً، من توقف نهائي للأعمال والشركات ومعظم المصانع وتسريح آلاف من الأيدي العاملة، ون
فاد المواد الغذائية من الأسواق، وانعدام البترول والديزل والغاز، وخروج محطة الكهرباء الرئيسية في مدينة مأرب عن الخدمة، أياماً متواصلة في أكثر من مدينة يمنية، بسبب المواجهات، لتصبح الحياة اليومية في اليمن معطلة كلياً.
يعيش اليمنيون في سجن كبير مفروض عليهم من الموت والحصار والجوع. ولا يقف الأمر عند الكلفة الباهظة لذلك كله، بل الأكثر مأساوية هو الدمار الذي يعصف بالمجتمع اليمني وبتعايشه، وتحول اليمنيين إلى بيادق في يد الاصطفافات السياسية والمناطقية والجهوية، وإعلاء لغة السلاح والقوة والثأر في التعاطي مع الخصوم السياسيين، الأمر الذي يقوض نسيج الوحدة الاجتماعية لليمنيين، ويُفقد المجتمع اليمني، في هذه اللحظات المصيرية، قدرته على الاصطفاف كمجتمع، له إرادته الخاصة، غير الخاضعة لخيارات السياسيين المتصارعين، وإنما لخيارات المجتمع في الحياة ونبذ العنف، ويعيق تشكل قوة داخل المجتمع، تدافع عن قضايا حياته اليومية.
وفي مقابل عنترية السلاح واللغة العصبوية التي تتخذها الأطراف السياسية المتصارعة، يخفت، اليوم، الصوت المدني، ويفقد خياراته في المقاومة المجتمعية السلمية، بعد أن أصبحت القطاعات الأوسع منه محلاً للاستقطابات المناطقية والمذهبية، ومنصة إعلامية لتبرير اللجوء للسلاح والعنف. في تجريف مخيف لتاريخ الحركة المدنية اليمنية، ونزعتها السلمية في كل المعارك السياسية التي خاضتها ضد الأنظمة السياسية السابقة، بل وشكلت، في فترات تاريخية، صمام أمان للمجتمع اليمني وتطلعاته، واستطاعت حمايته من النزوع إلى العنف، يبدو مخيفاً اليوم الشلل الذي أصاب المجتمع، وغياب الصوت المدني الذي يمثل فرصه في حماية ما سيبقى له من الوطن.
وفي مواجهة العنف الداخلي، وصور الموت والدمار المتنوعة التي يواجهها اليمنيون، وانقسام المجتمع اليمني بطريقة لم تحدث في تاريخه، يقف يمنيون كثيرون أرهقتهم حالة الحرب بلا خيارات آدمية، في مواجهة واقع مأساوي فرض عليهم، رافضين أن يصبحوا، في النهاية، ترساً في آلة الحرب المحلية والإقليمية، أو بوقاً للانتقام ولثارات الحوثيين وصالح، أو ثارات علي ومعاوية، غير أنهم عاجزون، كما لم يحدث في تاريخهم، عن بلورة أحلامهم في صون ما تبقى من أمان وطنهم ووحدته.