14 نوفمبر 2024
اليمن.. عام آخر من الحرب
تمثل حالة الحرب انعكاساً حقيقياً لغياب المشروع الوطني الجامع في المجتمع. وكترجمة فعلية لهذا الانهيار، تتولد قوى محلية عديدة جديدة تمثل حالة التشوه الوطني بأبعاد خطيرة، إضافة إلى القوى السياسية القديمة التي تدخل في تنافسٍ مع هذه القوى في تمثيل بيئة الحرب وتعقيداتها، وولاءاتها العابرة للحدود. ومن ثم، يدفع المجتمع ثمناً باهظاً لمعارك هذه القوى، وقد يظل أسيراً لخطاباتها السياسية أجلا غير معلوم، وقد يحدث حراكٌ بطيء يزيح مقولات هذه القوى تدريجياً، كبداية لإزاحتها السياسية عن المشهد. في هذا السياق، فإنه، وعلى الرغم من غياب أي بوادر أولية لولادة مشروع وطني يمني جامع، يمثل تطلعات اليمنيين في مرحلة ما بعد الحرب، وكذلك عدم تبلور قوى وطنية يمنية تزيح قوى الحرب المحلية والإقليمية على اختلاف معسكراتها، فإن تحليل المتغيرات التي يشهدها المجتمع اليمني بعد خمس سنوات من الحرب، يبدأ في قياس حالة تشظّي القوى اليمنية المحلية في معسكرات الحرب المختلفة، وكذلك تجاذب القوى الإقليمية المتدخلة في اليمن وتنافسها، وأثر ذلك في ظهور أنماط تفاعلات مجتمعية جديدة في مناطق متعدّدة من اليمن، تعارض، في تمثيلاتها وتطلعاتها، قوى الحرب المحلية والإقليمية وخطاباتها السياسية؛ فحتى مع استمرار آليات قوى الحرب المحلية والإقليمية في إدارة الحرب في جبهات القتال، وكذلك تماسك آلة العنف التي تستخدمها هذه القوى ضد اليمنيين، لتجويعهم وإجبارهم على قبول استدامة الحرب، فإن تنامي وعي مجتمعي يمني يدين هذه القوى، ويجرّدها من ميكانيزمتها، لم يعد أمراً مستحيلاً كما كان في بداية الحرب.
دخلت الحرب في اليمن، في 26 مارس/ آذار المنصرم عامها الخامس. كجغرافيا، يذهب اليمن سريعاً إلى مرحلة التشظي في حروب استنزافٍ صغيرة بين أمراء الحرب تشهدها
المناطق المحرّرة، إضافة إلى الحرب بين جماعة الحوثي والسلطة الشرعية، بمعية التحالف في الجبهات المفتوحة. وفي حين يستمر تدمير مقومات الحياة في اليمن من قوى الحرب المحلية والإقليمية، ويجري تعميم المجاعة على اليمنيين، فإن السردية التي بنت عليها السعودية، قائدة التحالف العربي، والإمارات، تدخلهما العسكري في اليمن، أصبحت اليوم، أكثر من أي وقت مضى، موضع تشكك، ليس فقط من معظم اليمنيين البسطاء، بل حتى من حلفائها السياسيين قبل خصومها؛ فلم تفشل الاستراتيجية السعودية فقط في حسم الحرب عسكرياً ضد الانقلابيين في غضون شهر، كما كانت تصريحات قياداتها العسكرية تقول حينها، وإنما عملت السعودية بكل الوسائل على استقرار جبهات القتال في اليمن، لاستنزاف حلفائها المحليين الخارجين عن السيطرة، كما تواطأت مع حليفها الإماراتي على إعاقة وجود السلطة الشرعية، ممثلة بالرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، في عدن، بدعم قوى محلية مناوئة للشرعية، وتدشين حروب صغيرة بين الفصائل المسلحة التابعة للرئيس هادي.
وفي حين يبدو أن السعودية، بعد خمس سنوات من مستنقعها في اليمن، لم يعد يهمها في الملف اليمني سوى تأمين حدودها الجنوبية من الحوثيين، والضغط على السلطة الشرعية بقبول تعويضات ضحايا غاراتها في اليمن، فإن معظم اليمنيين يدركون اليوم أن السياسة السعودية تجاه اليمن واليمنيين، منذ تأسيس الدولة السعودية الأولى ربما وحتى الآن، لم تكن يوماً علاقة جوار ودية قائمة على الاحترام والطيبة، ناهيك بالمساعدة.
تبدو مدينة عدن، العاصمة المؤقتة كما تطلق عليها السلطة الشرعية، حالة مثالية لقياس متغيرات أربع سنوات من الحرب في اليمن؛ ففي حين لا تزال آثار الحرب باقية في المباني الخاصة والفنادق، جرّاء غارات الطيران، وبقاء النازحين منذ أشهر الحرب الأولى في مخيمات أو في المقابر، فإن تغييراً يمكن لمسه من طبيعية تفاعل المواطنين، سواء مع السلطة الشرعية، أو مع القوى المحلية الجنوبية التي أنتجتها الحرب. فمن جهة، وعلى الرغم من إدانة المجتمع لغياب مؤسسات دولة حقيقية، تقوم بمهامها حيال متطلباتهم اليومية، بما في ذلك غياب الخدمات العامة، وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، فإن مواطنين كثيرين يلقون باللوم على دولة الإمارات، ليس باعتبارها قوة إقليمية معرقلة للسلطة للشرعية فقط، ومع كل مآخذهم على الشرعية
وفسادها، وعدم اعترافهم بشرعيتها، وإنما لاعتقادهم أن الإمارات، خلافاً لخطاب ماكينتها الإعلامية في الجنوب، لم تقدم أي دعم حقيقي يلمسه المواطن العادي؛ فعدا السجون السرية، ودعم منطقةٍ جنوبيةٍ على أخرى، كتكريس لدورة صراعات الماضي في الجنوب، إن دور الإمارات في عدن والجنوب بشكل عام يشكل علامة استفهامٍ كبيرة، واستهجاناً شعبياً، حيث شهد مطلع مارس/ آذار الماضي مظاهرات متعدّدة عفوية في شوارع المدينة، تندّد بالإمارات وتطالب برحيلها من الجنوب. من جهة أخرى، وعلى الرغم من محاولة قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات تمتين سلطته السياسية والشعبية في مديريات مدينة عدن، مستفيداً من القوى العسكرية والأحزمة الأمنية الموالية للإمارات في عدن، وكذلك من قصور مؤسسات السلطة الشرعية، فإن المجلس الانتقالي، كما يبدو، سيواجه تحدياً شعبياً في المستقبل القريب.
لم تستطع جماعة الحوثي، كما يبدو، التعاطي مع نفسها سلطة أمر واقع في المناطق التي تحكمها، إذ حتى بعد أكثر من عام من اغتيالها حليفها، الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وانفرادها بالسلطة، فشلت ليس فقط في توسيع دائرة حلفائها، بل وفي إدارة حياة المواطنين في مناطقها أيضاً. وعدا عن استمرار آلة القهر والترويع بحق المواطنين، لا تملك مشروعاً حقيقياً حتى لأنصارها والمنخرطين في القتال معها، يتجاوز حالة الحرب الحالية، ويقدم رؤيتها لليمن بعيداً عن حالة الاحتراب الدائم. فعلى الرغم من محاولة جناحها السياسي تقديم الجماعة بصورة مدنية، إن خطابات قياداتها السياسية والعسكرية والدينية تتعاطى مع كل من لا يتوافق مع طروحاتها وأجنداتها السياسية والدينية كـ"خصم" و"منافق" يستحق القتل. ولأنها لا تملك خطاباً آخر يمكنها من البقاء سياسياً في مناطقها، فإنها لم تجد، باعتبارها طرفا رئيسا في الحرب، سوى احتكار الخطاب السياسي المحلي، المواجه لدول التحالف العربي في اليمن، بما في ذلك كلفة حربه على اليمنيين، وخصوصا تبنّي مظلومية أهالي ضحايا غارات التحالف العربي في مناطقها. وفي حين لا يمثل هذا الخطاب الدوغمائي أي بعدٍ وطني، من قريب أو بعيد، كون الجماعة هي التمثيل المحلي لآلة القتل والقهر التي بطشت باليمنيين، تماماً كالتحالف العربي، فإن ما تفعله الجماعة ليس سوى توجيه أنصارها إلى حصد انتصارات سياسية وهمية، مثل إحيائها الذكرى الرابعة للعدوان، كما تطلق عليه.
ولا يبدو أن رسائل جماعة الحوثي السياسية إلى الداخل والخارج، في عامها الحالي، اختلفت
كثيراً عن بداية الحرب، من نواحي التلويح بالقوة واستمرار الحرب، بما في ذلك استثمار مظلومية النتائج الكارثية لجرائم التحالف العربي في اليمن لصالحها، وتجاهل جرائمها في حق اليمنيين، وكونها سبباً رئيساً للتدخل الخارجي واحتلال اليمن. وبعيداً عن المشهد الجماهيري في ميدان السبعين، الذي يمكن اعتباره نتائج التجييش الشعبي الذي نجحت الجماعة، بوسائل المال والقوة، في فرضه، فإن اللافت هو الكم الهائل من السخرية المجتمعية، ليس فقط على المسيرات مدفوعة الأجر في صنعاء، المحروسة بالـ"صميل"، وإنما على النصب التذكاري الذي شيدته الجماعة في أحد شوارع صنعاء، لتأكيد انتصار عسكري وهمي على السعودية.
ليس "عام الولاعة"، كما يسخر سكان صنعاء من المليشيات، ولا "عام عودة مؤسسات الدولة" كما تروّج شرعيةٌ متجولة. إنه عام آخر من التيه والعجز، دورة زمنية أخرى مستمرة في جحيمٍ لا يعرفه سوى اليمنيين في الداخل، البعيدين عن أطراف الحرب. عام خامس قد ينهش ما تبقى من أرواحهم، ويهدّد حياتهم، عام خامس قد يمضي، هو الآخر، لكنهم يدركون اليوم أنه حتى لو مضى فرقاء الحرب وأربابها وجنرالاتها في حربهم حتى آخر صخرة في الجبال اليمنية الشاهقة، فإنهم جميعاً قتلة متشابهون، ومدانون.
وفي حين يبدو أن السعودية، بعد خمس سنوات من مستنقعها في اليمن، لم يعد يهمها في الملف اليمني سوى تأمين حدودها الجنوبية من الحوثيين، والضغط على السلطة الشرعية بقبول تعويضات ضحايا غاراتها في اليمن، فإن معظم اليمنيين يدركون اليوم أن السياسة السعودية تجاه اليمن واليمنيين، منذ تأسيس الدولة السعودية الأولى ربما وحتى الآن، لم تكن يوماً علاقة جوار ودية قائمة على الاحترام والطيبة، ناهيك بالمساعدة.
تبدو مدينة عدن، العاصمة المؤقتة كما تطلق عليها السلطة الشرعية، حالة مثالية لقياس متغيرات أربع سنوات من الحرب في اليمن؛ ففي حين لا تزال آثار الحرب باقية في المباني الخاصة والفنادق، جرّاء غارات الطيران، وبقاء النازحين منذ أشهر الحرب الأولى في مخيمات أو في المقابر، فإن تغييراً يمكن لمسه من طبيعية تفاعل المواطنين، سواء مع السلطة الشرعية، أو مع القوى المحلية الجنوبية التي أنتجتها الحرب. فمن جهة، وعلى الرغم من إدانة المجتمع لغياب مؤسسات دولة حقيقية، تقوم بمهامها حيال متطلباتهم اليومية، بما في ذلك غياب الخدمات العامة، وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، فإن مواطنين كثيرين يلقون باللوم على دولة الإمارات، ليس باعتبارها قوة إقليمية معرقلة للسلطة للشرعية فقط، ومع كل مآخذهم على الشرعية
لم تستطع جماعة الحوثي، كما يبدو، التعاطي مع نفسها سلطة أمر واقع في المناطق التي تحكمها، إذ حتى بعد أكثر من عام من اغتيالها حليفها، الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وانفرادها بالسلطة، فشلت ليس فقط في توسيع دائرة حلفائها، بل وفي إدارة حياة المواطنين في مناطقها أيضاً. وعدا عن استمرار آلة القهر والترويع بحق المواطنين، لا تملك مشروعاً حقيقياً حتى لأنصارها والمنخرطين في القتال معها، يتجاوز حالة الحرب الحالية، ويقدم رؤيتها لليمن بعيداً عن حالة الاحتراب الدائم. فعلى الرغم من محاولة جناحها السياسي تقديم الجماعة بصورة مدنية، إن خطابات قياداتها السياسية والعسكرية والدينية تتعاطى مع كل من لا يتوافق مع طروحاتها وأجنداتها السياسية والدينية كـ"خصم" و"منافق" يستحق القتل. ولأنها لا تملك خطاباً آخر يمكنها من البقاء سياسياً في مناطقها، فإنها لم تجد، باعتبارها طرفا رئيسا في الحرب، سوى احتكار الخطاب السياسي المحلي، المواجه لدول التحالف العربي في اليمن، بما في ذلك كلفة حربه على اليمنيين، وخصوصا تبنّي مظلومية أهالي ضحايا غارات التحالف العربي في مناطقها. وفي حين لا يمثل هذا الخطاب الدوغمائي أي بعدٍ وطني، من قريب أو بعيد، كون الجماعة هي التمثيل المحلي لآلة القتل والقهر التي بطشت باليمنيين، تماماً كالتحالف العربي، فإن ما تفعله الجماعة ليس سوى توجيه أنصارها إلى حصد انتصارات سياسية وهمية، مثل إحيائها الذكرى الرابعة للعدوان، كما تطلق عليه.
ولا يبدو أن رسائل جماعة الحوثي السياسية إلى الداخل والخارج، في عامها الحالي، اختلفت
ليس "عام الولاعة"، كما يسخر سكان صنعاء من المليشيات، ولا "عام عودة مؤسسات الدولة" كما تروّج شرعيةٌ متجولة. إنه عام آخر من التيه والعجز، دورة زمنية أخرى مستمرة في جحيمٍ لا يعرفه سوى اليمنيين في الداخل، البعيدين عن أطراف الحرب. عام خامس قد ينهش ما تبقى من أرواحهم، ويهدّد حياتهم، عام خامس قد يمضي، هو الآخر، لكنهم يدركون اليوم أنه حتى لو مضى فرقاء الحرب وأربابها وجنرالاتها في حربهم حتى آخر صخرة في الجبال اليمنية الشاهقة، فإنهم جميعاً قتلة متشابهون، ومدانون.