يعيش اليمنيون منذ 2011، تاريخ انطلاق ثورة فبراير الشبابية، وهم يدفعون ثمن أخطاء عدة ارتكبتها القوى السياسية، أبرزها الدفع نحو مرحلة انتقالية هشة، لم تُدَر بقدر المسؤولية والمخاطر التي كانت تعيشها البلاد في ذلك الحين. وهي تحاول التخلص من إرث الرئيس المخلوع، علي عبدالله صالح، السياسي والعسكري، الذي دام لأكثر من ثلاثة عقود سخّر خلالها مقدرات البلاد من أجل البقاء في السلطة ومحاولة توريثها لنجله أحمد.
في ذلك العام، سلّم الآلاف من اليمنيين الذين كانوا يخرجون إلى الساحات يومياً وعلى مدى أشهر مرددين شعار "إرحل"، والذي كان يتخطى صالح بشخصه إلى كافة رموز حكمه، بما ارتضته لهم الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة والدول الإقليمية والدولية، التي ضغطت للموافقة على المبادرة الخليجية (أعلنت للمرة الأولى في إبريل/ نيسان 2011 ووقعت في الرياض في 23 نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه).
بنود المبادرة الخليجية كانت واضحة لجهة أنها اتفاق تقاسم سلطة، مُنح بموجبها صالح الحصانة وضمن استمرار حزب المؤتمر الشعبي العام، الذي يرأسه، المشاركة في الحياة السياسية على عكس باقي الأحزاب الحاكمة التي حُلّت في البلدان التي شهدت ثورات (الحزب الوطني في مصر، والتجمع الديمقراطي في تونس)، في مقابل خروجه من المشهد عبر نقل صلاحياته إلى نائبه في ذلك الحين، عبد ربه منصور هادي، الذي سرعان ما انتخب بموجب المبادرة رئيساً توافقياً في 21 فبراير/شباط 2012.
امتد الحوار الوطني الذي انطلق في 18 مارس/آذار 2013 لعشرة أشهر (25 يناير/كانون الثاني 2014)، كان خلالها اليمنيون يراقبون الخلافات التي تعصف بالمشاركين فيه بسبب تباين الرؤى ومحاولات تفريغه من مضمونه، خصوصاً لجهة كونه مؤتمراً تأسيسياً لمرحلة جديدة من عمر الدولة اليمنية وهم يتخوفون من أن الأسوأ هو الآتي. وقد شكلت الانسحابات التي رافقت جلسات المؤتمر، واندلاع الحرب بين جماعة الحوثيين وبين السلفيين المتواجدين في دماج (شمال صنعاء)، وأحداث أخرى، مؤشرات أولية نحو الفشل قبل أن تأتي الجلسة الختامية للمؤتمر والتي تفجرت فيها الخلافات حول قضية الأقاليم والطريقة التي أقرّ فيها الخيار الفيدرالي وباقي مخرجات الحوار، لتقدم دليلاً قاطعاً نحو الهاوية التي تسير باتجاهها البلاد. وهو ما ترجم بسلسلة تطورات عسكرية وأمنية، لم تكن لتحصل لولا الخطر الأكبر الذي حذر منه كثر يومها، والمتمثل في القفز على مفهوم المرحلة الانتقالية ومتطلباتها، ما جعلها تتحول إلى مرحلة صراع متعدد الأطراف خصوصاً بعد بروز مراكز قوى سياسية جديدة تحاول أن تحجز لنفسها مركزاً، وأهمها جماعة أنصار الله (الحوثيين)، التي كانت تحاول استغلال سلاحها وتحولها إلى الطرف العسكري الأقوى لتحقيق مكتسبات سياسية.
وقد فرضت الخلافات المتفاقمة بين القوى السياسية اليمنية من جهة، وتقاطع المصالح بين بعض القوى في ما بينها من جهة ثانية، تحالفات غير مسبوقة في المشهد السياسي اليمني، كانت ترجمتها الأبرز من خلال التقارب الذي بدأت تظهر مؤشراته تباعاً بين جماعة الحوثيين وبين عدو الأمس القريب، الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح. الأخير أهدافه كانت واضحة، فهو كان يريد الانتقام من حلفائه السابقين الذين يعتبر أنهم تخلوا عنه وقفزوا من مركبه بعدما تشاركوا معه في حكم البلاد. وقد منح التساهل الذي حظي به للبقاء كفاعل في المشهد السياسي الفرصة لصالح للتخطيط لـ"الانتقام" عبر إغراق البلاد، بالتعاون مع الحوثيين، في أتون حرب مدمرة لا تزال مستمرة إلى اليوم.
أحسن صالح استدراج الحوثيين إلى مربعه، مستغلاً نفوذه داخل مؤسسات الدولة وتهيئة الأجواء لهم للتمدد عسكرياً وتصفية خصومهم السياسيين والعسكريين، كما حدث في دماج وعمران قبل أن يطرقوا أبواب العاصمة صنعاء ويسقطوها بذريعة الجرعة (قرار حكومة سالم باسندوة رفع أسعار المشتقات النفطية) ويبدؤوا رحلة الانقلاب على الدولة واجتياح محافظات البلاد الواحدة تلو الأخرى.
صحيح أن المعارك المستمرة منذ ذلك الحين استطاعت أن توقف تمدد الحوثيين وقوات الرئيس المخلوع وتخرجهم من أغلب المحافظات الجنوبية التي سيطروا عليها، فضلاً عن تقليص مناطق سيطرتهم في الشمال، لكنها في الوقت نفسه غير قادرة على إلحاق هزيمة عسكرية بهم، تتيح للشرعية الحديث عن انتصار عسكري يوقف الحرب.
في موازاة ذلك، لم تنجح جولات الحوار الأربع (التي بدأت أولاها في جنيف السويسرية في 16 يونيو/جزيران 2015، واختتمت آخرها قبل فترة وجيزة في الكويت)، في دفع الطرفين للتوصل إلى حل سياسي. وقد دفع هذا الأمر كل طرف إلى إشهار المزيد من أوراق ضغطه. فالشرعية تركز حالياً على التصعيد العسكري والتقدم شمال العاصمة صنعاء. في المقابل، لم يتأخر تحالف الانقلاب في استخدام أوراق عدة أولها التصعيد العسكري على الحدود مع السعودية، بعد أشهر من هدوء حذر كرسته تفاهمات بين الرياض والجماعة، فضلاً عن التصعيد السياسي من خلال تشكيل مجلس أعلى لإدارة الدولة حل مكان اللجنة الثورية، وإعادة تفعيل البرلمان عبر استئناف عقد جلساته.
لذلك، فإن الدعوات الصادرة عن يمنيين كثر لوقف الحرب وإيجاد حل سياسي مبني على تقاسم السلطة ليست ترفاً يطلقه محايدون يستحقون أن تكال بحقهم شتى الشتائم والتهم، خصوصاً عندما تكون هذه الدعوات صادرة إما عن يمنيين يعيشون داخل مناطقهم وهم يتعرضون يومياً لقصف طائرات التحالف، التي تتزايد أخطاء طائراتها، أو ينتشرون في محافظات ويعيشون تحت وطأة جرائم تحالف الانقلاب، أو يعانون من تداعيات انهيار سلطة الدولة وانتشار الفوضى الأمنية في مناطقهم.
تبدو هذه الدعوات للحل ضرورة ملحة ليس فقط بسبب كونها إقراراً بالواقع ومقتضياته خصوصاً أن الحسم العسكري أمر غير وارد، بل أيضاً بسبب حجم المآسي التي يعاني منها اليمنيون، لا سيما بعد سقوط 3740 قتيلاً مدنياً ونحو 6566 جريحاً، فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المأساوية التي يعيشون في ظلها.