07 ديسمبر 2023
اليمن.. حياد المثقف وعجز النخبة
عندما ينفرد رئيس بالحكم تكون أولى مهامه هي القضاء على المنافسين المحتملين، وتجريف النخبة السياسية باستخدام أساليب الخوف، مثل الإعدامات والاعتقالات، عبرةً لمن يعتبر، أو أساليب الإغواء من خلال منح مناصب سياسية، أو أموال بما لها من أثر إذلالي على المعارضين.
أجاد الرئيس علي عبدالله صالح استخدام الأساليب المتعددة من الإرهاب، أو الإغواء، بدرجات متفاوتة، تتناسب مع طبيعة خصمه أو منافسه، وتحولت العملية السياسية من تدافع ومنافسة إلى ملعبٍ، يبحث كل سياسي فيه عن دور في صفوف السلطة أو المعارضة، ويتفاوت دوره وقيمته، حسب تأثيره ودرجة اقترابه من السلطة. هكذا أوجد علي عبدالله صالح شبكة واسعة ومتشابكة من الولاءات، حتى في صفوف المعارضة التي لم تكن تتجاوز حداً معيناً من المعارضة، محافظة على شعرة معاوية التي تحميها من إجراءات القمع، وتمنحها بعض الامتيازات المالية، من حين إلى آخر.
كان الملعب مصمماً وفقاً لقواعد وضعها رئيس الملعب الذي يتفرّج، ويتدخل لضبط اللعبة أحياناً. لكن، لا منافسة حقيقية على السلطة، ثلاثة عقود من اللعب في عملية سياسية عدمية، لا يتطور من خلالها البلد تنموياً، ولا يكتسب تقاليد ديمقراطية حقيقية، ولم يعد هناك سياسي انتهازي أو مبدئي، بل سياسي يلعب دوره المرسوم جيداً. وانتقلت السياسة من مضمونها الحقيقي، وهي التنافس على السلطة، بإثبات الجدارة في تحقيق مصالح الناس، حسب رؤى متباينة، إلى سياسة توزيع الأدوار.
كانت ثورة 2011 نقطة تحول تتطلب تغييراً جذرياً، لقواعد العملية السياسية، لكن المبادرة الخليجية أعادت ترتيب أوراق اللعبة، وتغير رئيسها، حاول الرئيس عبد ربه منصور هادي لعب دور صالح، لكن الظروف لم تلائمه، ولا طبيعة شخصيته، كذلك الأحزاب اعتادت لعب أدوار محددة خارج السلطة، من دون خبرة إدارية مع غياب أي تصورات سياسية واقتصادية مختلفة.
هكذا تقبلت هذه الأحزاب بسهولة توقيع اتفاقية السلم والشراكة، بعد سقوط صنعاء، مقتنعة بأن هذه المرة كسابقاتها، اتفاقية سياسية جديدة، تعيد ترتيب اللعبة بقيادة جديدة. هذا لم يحدث، وببداهة، فشل الاتفاق، لأنه مفروض بقوة سلاح مليشيا وليس دولة، والمليشيا لا توالي إلا زعيمها، وفي حالة الحوثي هي مليشيا ذات تركيبة طائفية، بعقلية القرون الوسطى، تؤمن بمنطق القوة العارية من أي شكل سياسي.
وقتها كان المتحمسون للاتفاق يبرّرون موقفهم أن البديل هو الحرب. وهكذا تأجلت المواجهة من عمران إلى صنعاء، حتى اجتاحت اليمن حرب أهلية، مصحوبة بتدخل إقليمي. كانت الحرب الطريق الوحيد لتحالف الحوثي- صالح في مغامرتهما؛ صالح بشهوة الانتقام العارمة، لأنه يرى أن العملية السياسية أفقدته سلطةً هو أحق بها، بينما الحوثي جماعة مذهبية، لها أتباع محدودون، والعنف يعطيها حجماً أكبر من حجمها مرات، بحكم قوتها العسكرية التي تفوق بقية القوى السياسية.
العنف يغلق مسار السياسة، وإذا اقترن بحالة قمع غير مسبوقة، من مليشيا تتسبب تركيبتها في احتقان مناطقي ومذهبي شديد، فالحديث عن عمل مدني سلمي معارض، كشكل من المقاومة، يظل فيه قدر من التبسيط وتبنٍّ لأفكار غير واقعية، تأثراً بالأفكار الغربية الليبرالية، من دون أدنى معرفة بسياقاتها وحيثياتها، وجهل بأبسط قواعد السياسة والعمل المدني، وهو وجود الدولة التي لم يحدث أي سابقة تاريخية أن لحق انهيارها عمل سياسي، أو معارضة مدنية، وليس عنفاً بين أطراف متعددة.
إدانة العنف بالمطلق والدعوة إلى السلم يسمى حياداً لدى بعضهم، لكنه، في الواقع، تمييع للموقف، فالحرب فرضها طرف على الجميع، ولا يمكن وقفها من دون معالجة أسباب العنف الذي لن يؤدي، بالضرورة، إلى المساواة بين أطرافها بالإدانة المطلقة. هنا، تتحول إدانة العنف بالمطلق من دون تحرّي الأسباب لتحقيق الظروف الموضوعية للسلم، إلى موقف أخلاقي فيه قدر من السذاجة، وعادة يهدف إلى تبرئة الضمير، والتخلي عن مسؤولية أخلاقية وسياسية لوقف الحرب.
يتصوّر بعضهم إن الإدانة الأخلاقية الواجبة لانتهاكات كلا الطرفين تعني حياداً، وليس استجابة
لالتزام أخلاقي تجاه الضحايا، لا يتعلق بالموقف السياسي، والاكتفاء بهذا الموقف الأخلاقي، من دون تحديد الموقف السياسي، عمل يناسب عمال الإغاثة والحقوقيين، حتى يمكنهم التحرك في ميادين المعركة، من دون عرقلة من أي طرف، لكنه لا يناسب سياسياً أو مثقفاً.
السياسي الذي يلزم هذا الموقف، من دون تقديم بدائل، أو التحرك في أطر الخيارات السياسية الموجودة، أو طرح بدائل لها، هو نتاج لحالة الملعب في عهد علي عبد الله صالح، سياسي انتهازي، أو ربما عاجز في أحسن الحالات، وينتظر دوراً ما يسند له. السياسة مسارات واقعية، وليست مثالية، في الغالب، وبين مسار صالح- الحوثي الاستبدادي بطابع مذهبي – مناطقي فاقع يمنع تشكل معارضة سياسية، ولا يخلق سوى مقابل مشابه، أو أسوأ في العنف والتطرف، مثل داعش، ومسار آخر يتجه نحو تحجيم وجودهما، من خلال المقاومة بجميع أشكالها، لتأسيس وضع سياسي جديد، وإن اتسم بالفوضى، لكنه سيتيح مساحة لمشاركة سياسية أوسع، تقلل من مساحات العنف، ولا تسد الأفق السياسي تماماً، كما المسار الأول.
يمكن لأي طرفٍ إيجاد مساره الخاص، والذي يمكنه البقاء والتطور، لو كان واقعياً، أو السير في أي مسار مطروح أمامه. ولا يعني هذا التماهي تماماً مع هذا المسار، بكل أخطائه وقياداته، خصوصاً لو كان مساراً قائماً على فكرة، وليس على الولاء للقيادة. فمثلاً، كنا نجد الخلافات كثيرة ومتعددة، ضمن الفصيل الجمهوري في ثورة سبتمبر، وبعضها عميقة، تتعلق بوقف الحرب والتسوية وشروطها، والتدخل الخارجي وحدوده، وغيرها من أمور جوهرية، بينما لم نجد خلافات بهذه الحدة في الفريق الملكي، لأنه كان يؤمن بفكرة الولاء للشخص. حالة مشابهه الآن، يعتمد فريق الحوثي- صالح على فكرة الولاء للشخص. لذا، يبدو أكثر تماسكاً من الفصيل المقابل الذي تتعدد توجهاته وتتشعب.
كذلك المثقف الذي يلتزم فكرة الحياد هو نتاج لتحول الأفكار السياسية، مثل الديمقراطية والحرية، لآراء مجردة، لا ترتبط بالواقع السياسي، حيث يمارس السياسي دوره، من دون أي ابتكار، وأيضاً بسبب تخلي المثقف عن دور التفسير الاجتماعي والسياسي للأحداث، إلى تبني دور الواعظ الاخلاقي المنشغل بتسجيل مواقف، وليس في معالجة الوضع الحالي.
الحياد الذي يعبر عن عجز وسلبية، جرّاء الانفصال عن الواقع، أو الانتهازية أو الانشغال بتسجيل مواقف شخصية بتجرّد من المسؤولية الاجتماعية والسياسية لوقف الحرب، موقف يختلف كلياً عن فكرة رفض الطرفين، لأجل تأسيس تيار مختلف، أو إدانة انتهاكات الأطراف المتصارعة. في اليمن، يبدو هذا الخلط واضحاً، وفكرة رفض الخيارات المطروحة لا يوازيها السعي نحو نقد أو تطوير القوى السياسية الداخلية الفاعلة على الأرض، أو تطويرها، بما فيها القوى الشعبية التي فرضت نفسها بحراك مدني، أو عمل عسكري، فالمسألة هنا لا تتعدى حالة عجز لنخبة اعتادت العمل بشكل نخبوي، مترفع عن المجتمع، حسب أطر لعبة سياسية مرسومة بدقة، أو مثقفين لم يتخلوا عن ثياب الواعظين، هذا كله يصب لصالح اللجوء للسلاح بشكل أكبر، والاعتماد أكثر على الأطراف الخارجية.
أجاد الرئيس علي عبدالله صالح استخدام الأساليب المتعددة من الإرهاب، أو الإغواء، بدرجات متفاوتة، تتناسب مع طبيعة خصمه أو منافسه، وتحولت العملية السياسية من تدافع ومنافسة إلى ملعبٍ، يبحث كل سياسي فيه عن دور في صفوف السلطة أو المعارضة، ويتفاوت دوره وقيمته، حسب تأثيره ودرجة اقترابه من السلطة. هكذا أوجد علي عبدالله صالح شبكة واسعة ومتشابكة من الولاءات، حتى في صفوف المعارضة التي لم تكن تتجاوز حداً معيناً من المعارضة، محافظة على شعرة معاوية التي تحميها من إجراءات القمع، وتمنحها بعض الامتيازات المالية، من حين إلى آخر.
كان الملعب مصمماً وفقاً لقواعد وضعها رئيس الملعب الذي يتفرّج، ويتدخل لضبط اللعبة أحياناً. لكن، لا منافسة حقيقية على السلطة، ثلاثة عقود من اللعب في عملية سياسية عدمية، لا يتطور من خلالها البلد تنموياً، ولا يكتسب تقاليد ديمقراطية حقيقية، ولم يعد هناك سياسي انتهازي أو مبدئي، بل سياسي يلعب دوره المرسوم جيداً. وانتقلت السياسة من مضمونها الحقيقي، وهي التنافس على السلطة، بإثبات الجدارة في تحقيق مصالح الناس، حسب رؤى متباينة، إلى سياسة توزيع الأدوار.
كانت ثورة 2011 نقطة تحول تتطلب تغييراً جذرياً، لقواعد العملية السياسية، لكن المبادرة الخليجية أعادت ترتيب أوراق اللعبة، وتغير رئيسها، حاول الرئيس عبد ربه منصور هادي لعب دور صالح، لكن الظروف لم تلائمه، ولا طبيعة شخصيته، كذلك الأحزاب اعتادت لعب أدوار محددة خارج السلطة، من دون خبرة إدارية مع غياب أي تصورات سياسية واقتصادية مختلفة.
هكذا تقبلت هذه الأحزاب بسهولة توقيع اتفاقية السلم والشراكة، بعد سقوط صنعاء، مقتنعة بأن هذه المرة كسابقاتها، اتفاقية سياسية جديدة، تعيد ترتيب اللعبة بقيادة جديدة. هذا لم يحدث، وببداهة، فشل الاتفاق، لأنه مفروض بقوة سلاح مليشيا وليس دولة، والمليشيا لا توالي إلا زعيمها، وفي حالة الحوثي هي مليشيا ذات تركيبة طائفية، بعقلية القرون الوسطى، تؤمن بمنطق القوة العارية من أي شكل سياسي.
وقتها كان المتحمسون للاتفاق يبرّرون موقفهم أن البديل هو الحرب. وهكذا تأجلت المواجهة من عمران إلى صنعاء، حتى اجتاحت اليمن حرب أهلية، مصحوبة بتدخل إقليمي. كانت الحرب الطريق الوحيد لتحالف الحوثي- صالح في مغامرتهما؛ صالح بشهوة الانتقام العارمة، لأنه يرى أن العملية السياسية أفقدته سلطةً هو أحق بها، بينما الحوثي جماعة مذهبية، لها أتباع محدودون، والعنف يعطيها حجماً أكبر من حجمها مرات، بحكم قوتها العسكرية التي تفوق بقية القوى السياسية.
العنف يغلق مسار السياسة، وإذا اقترن بحالة قمع غير مسبوقة، من مليشيا تتسبب تركيبتها في احتقان مناطقي ومذهبي شديد، فالحديث عن عمل مدني سلمي معارض، كشكل من المقاومة، يظل فيه قدر من التبسيط وتبنٍّ لأفكار غير واقعية، تأثراً بالأفكار الغربية الليبرالية، من دون أدنى معرفة بسياقاتها وحيثياتها، وجهل بأبسط قواعد السياسة والعمل المدني، وهو وجود الدولة التي لم يحدث أي سابقة تاريخية أن لحق انهيارها عمل سياسي، أو معارضة مدنية، وليس عنفاً بين أطراف متعددة.
إدانة العنف بالمطلق والدعوة إلى السلم يسمى حياداً لدى بعضهم، لكنه، في الواقع، تمييع للموقف، فالحرب فرضها طرف على الجميع، ولا يمكن وقفها من دون معالجة أسباب العنف الذي لن يؤدي، بالضرورة، إلى المساواة بين أطرافها بالإدانة المطلقة. هنا، تتحول إدانة العنف بالمطلق من دون تحرّي الأسباب لتحقيق الظروف الموضوعية للسلم، إلى موقف أخلاقي فيه قدر من السذاجة، وعادة يهدف إلى تبرئة الضمير، والتخلي عن مسؤولية أخلاقية وسياسية لوقف الحرب.
يتصوّر بعضهم إن الإدانة الأخلاقية الواجبة لانتهاكات كلا الطرفين تعني حياداً، وليس استجابة
السياسي الذي يلزم هذا الموقف، من دون تقديم بدائل، أو التحرك في أطر الخيارات السياسية الموجودة، أو طرح بدائل لها، هو نتاج لحالة الملعب في عهد علي عبد الله صالح، سياسي انتهازي، أو ربما عاجز في أحسن الحالات، وينتظر دوراً ما يسند له. السياسة مسارات واقعية، وليست مثالية، في الغالب، وبين مسار صالح- الحوثي الاستبدادي بطابع مذهبي – مناطقي فاقع يمنع تشكل معارضة سياسية، ولا يخلق سوى مقابل مشابه، أو أسوأ في العنف والتطرف، مثل داعش، ومسار آخر يتجه نحو تحجيم وجودهما، من خلال المقاومة بجميع أشكالها، لتأسيس وضع سياسي جديد، وإن اتسم بالفوضى، لكنه سيتيح مساحة لمشاركة سياسية أوسع، تقلل من مساحات العنف، ولا تسد الأفق السياسي تماماً، كما المسار الأول.
يمكن لأي طرفٍ إيجاد مساره الخاص، والذي يمكنه البقاء والتطور، لو كان واقعياً، أو السير في أي مسار مطروح أمامه. ولا يعني هذا التماهي تماماً مع هذا المسار، بكل أخطائه وقياداته، خصوصاً لو كان مساراً قائماً على فكرة، وليس على الولاء للقيادة. فمثلاً، كنا نجد الخلافات كثيرة ومتعددة، ضمن الفصيل الجمهوري في ثورة سبتمبر، وبعضها عميقة، تتعلق بوقف الحرب والتسوية وشروطها، والتدخل الخارجي وحدوده، وغيرها من أمور جوهرية، بينما لم نجد خلافات بهذه الحدة في الفريق الملكي، لأنه كان يؤمن بفكرة الولاء للشخص. حالة مشابهه الآن، يعتمد فريق الحوثي- صالح على فكرة الولاء للشخص. لذا، يبدو أكثر تماسكاً من الفصيل المقابل الذي تتعدد توجهاته وتتشعب.
كذلك المثقف الذي يلتزم فكرة الحياد هو نتاج لتحول الأفكار السياسية، مثل الديمقراطية والحرية، لآراء مجردة، لا ترتبط بالواقع السياسي، حيث يمارس السياسي دوره، من دون أي ابتكار، وأيضاً بسبب تخلي المثقف عن دور التفسير الاجتماعي والسياسي للأحداث، إلى تبني دور الواعظ الاخلاقي المنشغل بتسجيل مواقف، وليس في معالجة الوضع الحالي.
الحياد الذي يعبر عن عجز وسلبية، جرّاء الانفصال عن الواقع، أو الانتهازية أو الانشغال بتسجيل مواقف شخصية بتجرّد من المسؤولية الاجتماعية والسياسية لوقف الحرب، موقف يختلف كلياً عن فكرة رفض الطرفين، لأجل تأسيس تيار مختلف، أو إدانة انتهاكات الأطراف المتصارعة. في اليمن، يبدو هذا الخلط واضحاً، وفكرة رفض الخيارات المطروحة لا يوازيها السعي نحو نقد أو تطوير القوى السياسية الداخلية الفاعلة على الأرض، أو تطويرها، بما فيها القوى الشعبية التي فرضت نفسها بحراك مدني، أو عمل عسكري، فالمسألة هنا لا تتعدى حالة عجز لنخبة اعتادت العمل بشكل نخبوي، مترفع عن المجتمع، حسب أطر لعبة سياسية مرسومة بدقة، أو مثقفين لم يتخلوا عن ثياب الواعظين، هذا كله يصب لصالح اللجوء للسلاح بشكل أكبر، والاعتماد أكثر على الأطراف الخارجية.