الولاية الإيرانية الثانية والثلاثون
سألت وزيراً عراقياً بعيد الاحتلال بشهور: "كيف ترى مستقبل العراق؟" أجابني: "اسأل وزيراً إيرانياً فعنده الخبر اليقين. الإيرانيون وحدهم يعرفون ماذا يخبئون لهذا البلد". وذكر لي الحكمة التي تعلمها الإيرانيون من ملحمتهم القومية "الشاهنامة"، والتي توصيهم بأن "لا يتمنوا المستحيل، إلا بعد أن يصبح ممكناً"، مضيفاً "أما وقد أصبح الوصول الإيراني إلى العراق ممكناً اليوم، بعدما كاد أن يكون مستحيلاً، فعلينا أن نتوقع ما لم نتوقع حدوثه من قبل"، وصمت!
كان الوزير كمن يلقي حجراً في مياه راكدة، لكن المياه، منذ تلك الأيام، لم تعد كذلك، فقد هاجت وماجت، وتغيّر مجراها ومرساها، ليستقرا عند طهران، وليصبح العراق، بعد عقد، "أقرب إلى إيران منه إلى محيطه العربي"، بحسب رؤية صحافي غربي، مهتم بشؤون المنطقة. أدرك بعض الساسة العراقيين هذه الحقيقة، لكنهم عجزوا عن فعل شيءٍ تجاهها على ما يبدو، أو ربما لم يريدوا أن يفعلوا شيئاً. لنتذكر تحذير محمود عثمان، القيادي في التحالف الكردستاني، وهو الخبير بأوضاع المنطقة والسياسات الإقليمية، من هيمنة إيران على العراق، وإشارته اللافتة إلى "أن قاسم سليماني (قائد فيلق القدس) أصبح وكأنه رئيس العراق، (فهو) يصول ويجول، من الشمال إلى الجنوب، من دون أي رادع يردعه، وكأنه في بلده". قبله مقتدى الصدر، المحسوب على إيران نفسها، قال إن من يحكم العراق، اليوم، هو سليماني! وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (فارس) قطعت قول كل خطيب، بتأكيدها أن الجنرال قاسم سليماني يقود فعلياً القوات العراقية، في مواجهاتها مع "داعش"، وعلى شبكات التواصل الاجتماعي أكثر من صورة له، وهو في غرفة العمليات العسكرية، أو متنقلاً بين الجبهات، أو صورته وهو يؤدي "رقصة النصر" بعد تحرير أمري.
تقارير متواترة منذ شهور عن مرابطة وحدات خاصة من "فيلق القدس" الإيراني في أكثر من موقع في بغداد ومحافظات عراقية، لا يتوفر رقم لعدد أفرادها، إلا أن بعضهم يرفع عددهم إلى بضعة آلاف، ينظر إليها على أنها "قوة احتلال"، انضمت إليها، بعد إعصار "داعش"، طائرات من طراز (أس يو 25) وطائرات من دون طيار ومنصات إطلاق صواريخ وأسلحة ومعدات ثقيلة، لتشكل قوة ضاربة ومؤثرة.
سياسيا، ما فعله حيدر العبادي، في مفتتح رئاسته الحكومة، بالحج إلى طهران، حيث استقبله موظف ثانوي في وزارة الخارجية، تماماً كأي محافظ في ولاية إيرانية، وحرص مضيفوه في لقائه المرشد الأعلى، علي خامنئي، على وضع العلم الإيراني فقط دون العراقي، ثم وصفه وجهات نظر خامنئي بـ"الإرشادات التي باتباعها سنجتاز المرحلة"، كل هذا يكرس عملياً نظرة الإيرانيين إلى العراق، على أنه مشروع لولاية إيرانية، سوف تحمل الرقم (32)، وينفي عنه صفة "الدولة المستقلة ذات السيادة"!
اقتصاديا، تقرير خطير لوكالة "قرطاس نيوز" يحوي مؤشراتٍ كثيرة ذات دلالة: يميل ميزان التبادل التجاري لصالح إيران بشكل مبالغ فيه، برأي أكثر من خبير، يشكل العراق أكبر سوق تجاري لإيران، بحسب مؤسسة التجارة الإيرانية التي أضافت أن 72% من البضائع الإيرانية تذهب إلى العراق، ما يصل إلى العراق هو من أردأ البضائع الإيرانية وليس من أفضلها، يعتبر ذلك دعماً لإيران التي تعاني من ظروف العقوبات، إيران قطعت المياه عن أراض زراعية عراقية، كي تضمن إدخال مزروعاتها من الخضر والفواكه، ومسؤولون عراقيون يأملون زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى أكثر من 30 مليار دولار، أي ما يساوي مرة ونصفاً لمجموع حجم التبادل التجاري بين العراق وجيرانه الباقين!
ينسلخ العراق عن محيطه العربي شيئاً فشيئاً، يوشك أن يصبح ولاية تابعة لإيران، واللغة الفارسية تكاد تصبح لغة أساسية، لا اعتراض إذا كان الهدف علمياً فحسب، لكنه أكثر من ذلك، إعادة النظر في مناهج دراسة "التاريخ" و"التربية الدينية"، لتكريس النهج الطائفي الذي يخدم المشروع الإيراني، ونشر ثقافة الموت، وإشاعة الأفكار الظلامية التي تؤجج الانقسام في المجتمع.
يعتقد عراقيون كثيرون أن إيران لا تتعامل مع بلادهم على هذا النحو لوجه الله، ما دام الشيطان يقبع في عقول الساسة الإيرانيين، وفي ثياب الساسة العراقيين أيضا! لكن، ما يزال بعضهم يعتقد أن العراقيين، وهم في هذا الظرف الصعب الذي يمرون به، يربحون الكثير من تعاملهم المفتوح مع إيران، إلى درجة تكريس الولاء والطاعة العمياء لمرجعياتها، على النحو الذي فعله العبادي وأسلافه، والسؤال الذي يبدو ثقيلاً على مسامعهم: ما فائدة أن يربح العراقيون إيران ويخسروا أنفسهم؟