06 نوفمبر 2024
الوجه الآخر للديمقراطية الأميركية
الديمقراطية مثل المعدن الأصيل، كلما تم حَكُّه لمع بريقه. هكذا تعلمنا تجارب الدول الديمقراطية. فهذه "الآلية"، على الرغم من هشاشتها، تبقى قادرةً، في كل مرة، على تصحيح أخطائها، وهذا من أكبر أسرارها واستمرارها، منذ اخترعها اليونان قبل أكثر من 2500 سنة. كان رئيس الوزراء البريطاني السابق، ونستون تشرشل، يقول إن الديمقراطية هي أسوأ نظام حكم اخترعه الإنسان، قبل أن يستطرد قوله: لكنه يبقى الأفضل حتى الآن.
اليوم، مع وصول رجل أعمال شعبوي، اسمه دونالد ترامب، إلى رئاسة أقوى قوة اقتصادية وعسكرية في العالم، تكشف لنا الديمقراطية عن آلياتها المتناقضة، وعن واحد من أسرار قوتها. فبفضل النظام الديمقراطي، استطاع رجل أعمال كان مغمورا خارج مجال نشاط تجارته، وأمياً في السياسة لم يسبق له أن مارسها، أن يخوض واحدةً من أطول الحملات الانتخابية وأشرسها في العالم، ويفوز فيها باستحقاق بيِّنٍ على باقي منافسيه من محترفي السياسة. لكن، أيضا بفضل وجود نظام ديمقراطي في الولايات المتحدة الأميركية، سُمح للمواطن الأميركي الرافض هذا "الوافد الجديد" أن يتظاهر أمام البيت الأبيض، رمز مركز السلطة السياسية في أميركا.
ومنذ وصول ترامب إلى السلطة، والديمقراطية الأميركية تفاجئنا، كل يوم، بقدرتها على أن تتحرّك لإصلاح نفسها بنفسها من الداخل. وهاكم الدليل على هذا التحرّك.
في اليوم الموالي لتنصيب ترامب رئيسا للولايات المتحدة، وبعد حفل رسمي باذخ في شوارع واشنطن، سمح في اليوم الموالي لمئات آلاف المتظاهرين بالنزول إلى شوارع أميركا للتظاهر ضد الرئيس الجديد. وعلى منصات التجمعات الجماهيرية، وقف عشرات الخطباء يكيلون النقد للرئيس المنتخب، ويندّدون بسياساته ويطالبون بالثورة والاحتجاج لإسقاطه. ومع ذلك، لم يعتقل أيٌّ من هؤلاء، ولم يُستنطق، أو يفصل من وظيفته، أو يُضايق في مهنته، أو يُحارَب في قوت عيشه.
وعندما بدأ الرئيس الجديد في التوقيع على "فرامانات" وعوده الانتخابية، بدأ الشعب الأميركي
بالتحرّك في شوارع مدنه معارضا ومدينا ومنتقدا ومندّدا بقرارات رئيسه، فقد خرجت عشرات المظاهرات ضد قرار بناء جدار على الحدود مع المكسيك، وعمّت مدن أميركا وعواصم في العالم مظاهرات نسائية ضخمة غير مسبوقة، للاحتجاج على نظرة الرئيس الأميركي الجديد المحتقرة للنساء.
وجديد قرارات الرئيس الأميركي التي تتفاعل ردود الفعل حولها، هو قراره الخاص بالحد من هجرة رعايا سبع دول عربية وإسلامية إلى أميركا. كان مظهر آلاف المواطنين الأميركيين، وهم يحتلون مطار جون كينيدي في نيويورك، معبّرا جدا عن الوجه الآخر للديمقراطية الأميركية التي تسمح لمواطنيها بالتظاهر والتعبير عن التضامن من أجل حق الآخر في ما يمنحه له الدستور الأميركي من حقوق، مثل المواطن الأميركي.
مظهر ثان للوجه الآخر للديمقراطية الأميركية جسدته سلطتان أخريان، لا يمكن لأي نظام ديمقراطي أن يستقيم بدون وجودهما مستقلتين، سلطة الإعلام وسلطة القضاء، فمنذ تنصيب الرئيس الجديد، وأكبر الانتقادات لسياساته تأتيه من وسائل إعلام بلاده التي فسحت المجال لكل رأي معارض ومستقل، للتعبير بحريةٍ عن وجهة نظره، بل وحتى انتقاداته سياسات سيد البيت الأبيض الجديد. أما القضاء الأميركي فعبّر عن استقلاليته، عندما أصدر ثلاثة قضاة أحكاما توقف تنفيذ قرار الرئيس حول الهجرة. أما رد الحكومة، باعتبارها جهازا تنفيذيا، ممثلةً في وزارة الأمن الداخلي، فكان هو الآخر معبّرا عن احترامٍ كبيرٍ لقواعد الديمقراطية، عندما قرّرت الانصياع لأحكام القضاء. وفي الوقت نفسه، الإبقاء على قانون الهجرة الذي فُرض بقرار رئاسي ساري المفعول، حتى يتم تغييره أو إلغاؤه أو إسقاطه. هذه هي قواعد اللعبة. وعلى الطرف الآخر من منصة القضاء، حيث يوجد الادعاء العام، لم يتأخر الرد عندما وقّع، حتى كتابة هذه السطور، 16 مدعيا عاما على بيانٍ يدينون فيه الأمر التنفيذي لرئيس الدولة. وكتبوا، في بيانهم، بوضوح تام "الحرية الدينية كانت وستبقى دائما مبدأ أساسيا لبلادنا، ولا يمكن لأي رئيسٍ تغيير هذه الحقيقة"، وتعهدوا بالعمل من أجل ضمان احترام الرئيس وحكومته مبادئ الدستور الأميركي، فالادعاء العام في الأنظمة الديمقراطية هو محامي الشعب وضمير القانون ودفاع المصلحة العامة أولا وأخيرا.
إحدى أهم إيجابيات وصول رئيس شعبوي إلى رئاسة الدولة التي توصف بأنها زعيمة العالم
الحر، هو هذا الزخم الذي أعطاه للنظام الديمقراطي المترهّل، فهو ذكّر العالم بهشاشة النظام الديمقراطي، وحرّك الناس للنزول إلى الشوارع، للدفاع عن قيمه ومبادئه، وجعل هذا النظام ذاته يتحرّك من الداخل، لتصحيح نفسه بنفسه، عبر آلياته الذاتية المتمثلة في السلطات المستقلة التي يقوم عليها.
ما تُعلمنا إياه يوميا تجربة حكم ترامب التي بالكاد بدأت أنه لا شيء مكتسبا إلى ما لا نهاية. فأحيانا لا يدرك المرء قيمة الشيء الذي يوجد بين يديه، إلا عندما يضيع منه أو يكاد. فالديمقراطية، كاختراع قديم، واحدةٌ من الاختراعات الكثيرة التي اخترعها الإنسان، وظلت تعيش معه حتى يومنا هذا، لا يُستطاع أن يُستغنى عنها، مثلها مثل النار والكتابة والعجلة ودورة المياه.. بل إنها أهم من كل هذه الاختراعات، لأنها التي تعطي لكل واحدٍ منا الحق في الاستفادة من باقي الاختراعات على قدم المساواة، وهي الوحيدة القادرة على بعث الحياة في نفسها من جديد، كلما أصابها الترهّل ووهن العظم منها.
اليوم، مع وصول رجل أعمال شعبوي، اسمه دونالد ترامب، إلى رئاسة أقوى قوة اقتصادية وعسكرية في العالم، تكشف لنا الديمقراطية عن آلياتها المتناقضة، وعن واحد من أسرار قوتها. فبفضل النظام الديمقراطي، استطاع رجل أعمال كان مغمورا خارج مجال نشاط تجارته، وأمياً في السياسة لم يسبق له أن مارسها، أن يخوض واحدةً من أطول الحملات الانتخابية وأشرسها في العالم، ويفوز فيها باستحقاق بيِّنٍ على باقي منافسيه من محترفي السياسة. لكن، أيضا بفضل وجود نظام ديمقراطي في الولايات المتحدة الأميركية، سُمح للمواطن الأميركي الرافض هذا "الوافد الجديد" أن يتظاهر أمام البيت الأبيض، رمز مركز السلطة السياسية في أميركا.
ومنذ وصول ترامب إلى السلطة، والديمقراطية الأميركية تفاجئنا، كل يوم، بقدرتها على أن تتحرّك لإصلاح نفسها بنفسها من الداخل. وهاكم الدليل على هذا التحرّك.
في اليوم الموالي لتنصيب ترامب رئيسا للولايات المتحدة، وبعد حفل رسمي باذخ في شوارع واشنطن، سمح في اليوم الموالي لمئات آلاف المتظاهرين بالنزول إلى شوارع أميركا للتظاهر ضد الرئيس الجديد. وعلى منصات التجمعات الجماهيرية، وقف عشرات الخطباء يكيلون النقد للرئيس المنتخب، ويندّدون بسياساته ويطالبون بالثورة والاحتجاج لإسقاطه. ومع ذلك، لم يعتقل أيٌّ من هؤلاء، ولم يُستنطق، أو يفصل من وظيفته، أو يُضايق في مهنته، أو يُحارَب في قوت عيشه.
وعندما بدأ الرئيس الجديد في التوقيع على "فرامانات" وعوده الانتخابية، بدأ الشعب الأميركي
وجديد قرارات الرئيس الأميركي التي تتفاعل ردود الفعل حولها، هو قراره الخاص بالحد من هجرة رعايا سبع دول عربية وإسلامية إلى أميركا. كان مظهر آلاف المواطنين الأميركيين، وهم يحتلون مطار جون كينيدي في نيويورك، معبّرا جدا عن الوجه الآخر للديمقراطية الأميركية التي تسمح لمواطنيها بالتظاهر والتعبير عن التضامن من أجل حق الآخر في ما يمنحه له الدستور الأميركي من حقوق، مثل المواطن الأميركي.
مظهر ثان للوجه الآخر للديمقراطية الأميركية جسدته سلطتان أخريان، لا يمكن لأي نظام ديمقراطي أن يستقيم بدون وجودهما مستقلتين، سلطة الإعلام وسلطة القضاء، فمنذ تنصيب الرئيس الجديد، وأكبر الانتقادات لسياساته تأتيه من وسائل إعلام بلاده التي فسحت المجال لكل رأي معارض ومستقل، للتعبير بحريةٍ عن وجهة نظره، بل وحتى انتقاداته سياسات سيد البيت الأبيض الجديد. أما القضاء الأميركي فعبّر عن استقلاليته، عندما أصدر ثلاثة قضاة أحكاما توقف تنفيذ قرار الرئيس حول الهجرة. أما رد الحكومة، باعتبارها جهازا تنفيذيا، ممثلةً في وزارة الأمن الداخلي، فكان هو الآخر معبّرا عن احترامٍ كبيرٍ لقواعد الديمقراطية، عندما قرّرت الانصياع لأحكام القضاء. وفي الوقت نفسه، الإبقاء على قانون الهجرة الذي فُرض بقرار رئاسي ساري المفعول، حتى يتم تغييره أو إلغاؤه أو إسقاطه. هذه هي قواعد اللعبة. وعلى الطرف الآخر من منصة القضاء، حيث يوجد الادعاء العام، لم يتأخر الرد عندما وقّع، حتى كتابة هذه السطور، 16 مدعيا عاما على بيانٍ يدينون فيه الأمر التنفيذي لرئيس الدولة. وكتبوا، في بيانهم، بوضوح تام "الحرية الدينية كانت وستبقى دائما مبدأ أساسيا لبلادنا، ولا يمكن لأي رئيسٍ تغيير هذه الحقيقة"، وتعهدوا بالعمل من أجل ضمان احترام الرئيس وحكومته مبادئ الدستور الأميركي، فالادعاء العام في الأنظمة الديمقراطية هو محامي الشعب وضمير القانون ودفاع المصلحة العامة أولا وأخيرا.
إحدى أهم إيجابيات وصول رئيس شعبوي إلى رئاسة الدولة التي توصف بأنها زعيمة العالم
ما تُعلمنا إياه يوميا تجربة حكم ترامب التي بالكاد بدأت أنه لا شيء مكتسبا إلى ما لا نهاية. فأحيانا لا يدرك المرء قيمة الشيء الذي يوجد بين يديه، إلا عندما يضيع منه أو يكاد. فالديمقراطية، كاختراع قديم، واحدةٌ من الاختراعات الكثيرة التي اخترعها الإنسان، وظلت تعيش معه حتى يومنا هذا، لا يُستطاع أن يُستغنى عنها، مثلها مثل النار والكتابة والعجلة ودورة المياه.. بل إنها أهم من كل هذه الاختراعات، لأنها التي تعطي لكل واحدٍ منا الحق في الاستفادة من باقي الاختراعات على قدم المساواة، وهي الوحيدة القادرة على بعث الحياة في نفسها من جديد، كلما أصابها الترهّل ووهن العظم منها.