إيلان بابيه يعود ويضرب بقوة

08 يناير 2025
+ الخط -

استمع إلى المقال:

عاد المؤرّخ اليهودي الإسرائيلي المعارض، إيلان بابيه، ليضرب بقوة، وهذه المرّة موجّهاً سهامه إلى اللوبي الصهيوني، باعتباره قوة الدفع الأساسية للمشروع الصهيوني منذ ظهوره. وفي عودته إلى التاريخ، واستقراء الأحداث والمواقف والتصريحات، يفكّك بابيه شفرة اللغز الكبير الذي يحيط بهذا اللوبي الذي تحول إلى أسطورة مخيفة يتفادى كثيرون من المفكرين والسياسيين والإعلاميين في الغرب الاقتراب منها أو الحديث عنها، وبالأحرى انتقادها.

جاء في وقته كتاب بابيه "الضغط من أجل الصهيونية على جانبي الأطلسي"، الصادر الصيف الماضي، بما أنه صدر في الوقت المناسب في أحد أهم فصول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عقب هجوم "طوفان الأقصى" الذي عرّى ازدواجية الغرب وفضح نفاقه. ويمكن لقارئ الكتاب أن يفهم اصطفاف الحكومات والإعلام الغربيين وراء العدوان الصهيوني على غزّة، واستعدادهما تبرير كل جرائمه وحمايتها من كل محاسبة أو محاكمة. ولا أعرف لماذا لم يحظ هذا الكتاب بأي اهتمام أو نقاش من الإعلام العربي فيما يُفرض على صاحبه في الغرب حصار إعلامي وسياسي غير مسبوق، حيث مُنعت بعض كتبه وسحبت أخرى من المكتبات الغربية، وتعرّض هو نفسه للتوقيف في مطار أميركي، وخضع للتحقيق ساعات رغم أنه يحمل الجنسية الإسرائيلية!

شجاعة (ونزاهة) هذا المؤرّخ الذي ألف على تحدي العقيدة الصهيونية وتحطيم أصنامها تبلغان أقصاهما في كتابه الجديد، لأنه يتصدّى فيه إلى "هُبل" هذه الأصنام، "اللوبي الصهيوني"، وإذا ما علمنا أن النطق بمجرّد هذا المسمّى (لوبي صهيوني) يعدّ معاداة للسامية ندرك مدى خطورة حقل الألغام الذي وضع فيه بابيه هذه المرّة أقدامه، فهو معروفٌ بمواقفه المنتقدة للصهيونية، وبأطروحاته التي تنتقد عقيدتها، لكنه في هذا الكتاب لا يعيد انتقادها، وإنما يحاول تتبع جذورها ليضع القارئ، المتمهل والصبور، أمام صورة تاريخية كبيرة تشرح له كيف تأسّس هذا اللوبي وكيف تطوّر حتى أصبح على ما هو عليه.

يكشف بابيه كيف تمكن ضغط اللوبي الصهيوني من تغيير خريطة الشرق الأوسط

وطوال 628 صفحة، يحاول بابيه الإجابة عن سؤالين جوهرين وعميقين: لماذا ما زالت إسرائيل تبحث عن شرعيتها رغم قيامها منذ 1948، وتحولها إلى أكبر قوة عسكرية في المنطقة وامتلاكها أحدث التقنيات؟ ولماذا لا تزال القضية الفلسطينية لا تحظى بالشرعية في كبريات عواصم صناعة القرار العالمي والسياسات العالمية، رغم عدالتها الواضحة والظلم التاريخي الكبير الذي لحق بشعبها منذ عقود؟

وللإجابة، يعود بابيه إلى التاريخ في محاولة متأنّية لإعادة تفكيك تاريخ "اللوبي الصهيوني"، لفهم كيف نشأ ولماذا ما زال قوياً ونافذاً؟ وكيف تغلغل داخل دوائر صنع القرار العالمي الأساسية؟ ليكشف من خلال عملية "حفريات" تاريخية عن جذوره، متتبعاً نموّه وتشعبه حتى أصبح على ما هو عليه، لفهم سر استمراره وقوته، ولكن أيضاً نقاط ضعفه وعجزه.

وبالسرد الدقيق ينسج بابيه قصة ظهور اللوبي الصهيوني بداية القرن التاسع عشر، ويكشف كيف تشكلت جماعات الضغط الصهيونية الثقافية السياسية في أميركا وبريطانيا من الفكرة الجهنمية التي تبنّاها ساسة ومفكرون غربيون لإيجاد حل لـ "المشكلة اليهودية" في بلدانهم، بـ"تصدير" اليهود الغربيين إلى فلسطين، وطرد أهلها الأصليين وتحويلها وطناً قومياً لليهود. ويعود بابيه إلى الوراء ليرسم أصول التحريض على عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين. وتبدأ هذه القصة مع الإنجيليين المسيحيين، ما قد يفسّر استخدام بابيه مصطلح "اللوبي الصهيوني" بدلاً من "اللوبي المؤيد لإسرائيل" المعتاد. ويتتبع أصول الضغط الصهيوني في القرن التاسع عشر، عندما تعاون الصهاينة المسيحيون الذين سعوا إلى التعجيل بعودة المسيح، مع الصهاينة اليهود ، بدافع من الحماسة القومية والرغبة في مساعدة يهود أوروبا على الهروب من معاداة السامية، لإقناع الحكومة البريطانية بتأسيس دولة يهودية. ثم ينتقل سرد الكاتب إلى الولايات المتحدة، حيث انضمّ المحافظون الجدد بعد الحرب العالمية الثانية إلى الصهاينة المسيحيين واليهود لإقناع السياسيين بدعم إسرائيل قاعدة متقدّمة ضد المد الشيوعي إبّان الحرب الباردة.

لماذا ما زالت إسرائيل تبحث عن شرعيتها رغم قيامها منذ 1948، وتحولها إلى أكبر قوة عسكرية في المنطقة وامتلاكها أحدث التقنيات؟

ويقول بابيه إن أول ما فعلته الصهيونية تحويل اليهودية من ديانة إلى قومية حتى يتسنّى لها بناء المشروع الصهيوني، بما أنه لا شيء كان يجمع بين شتات اليهود المتفرّقين في جميع بقاع الأرض، والذين لا تربط بينهم أية علاقة عرقية أو إثنية تدفعهم إلى الهجرة للعيش في "وطن قومي" واحد يجمع شملهم. والبداية، كما يقول بابيه، انطلقت من تفكير مجموعة صغيرة من المفكّرين ورجال الدين اليهود والمسيحيين، الذين كانوا يرون أن أفضل حل لمشكل "معاداة السامية" في أوروبا إيجاد "وطن قومي" لليهود في فلسطين وإقناعهم بالهجرة إليه وتوفير كل عوامل التحفيز والدعم المادي والمعنوي والروحي لتشجيعهم عليها. وما زال هذا التفكير الصهيوني، كما يقول بابيه، نشطاً ويشتغل بفعالية في جميع بقاع الأرض، خاصة في الدول الغربية.

وفي ثنايا تحقيقه المثير، يكشف بابيه كيف تمكّن ضغط هذا اللوبي الصهيوني من تغيير خريطة الشرق الأوسط، وإقناع صنّاع السياسة في الغرب، خاصة في أميركا وبريطانيا، بالتغاضي عن انتهاكات إسرائيل الصارخة للقانون الدولي، ومنحها المساعدات العسكرية غير مسبوقة، ويظهر لنا كيف نجح هذا اللوبي على ضفتي الأطلسي في بناء إجماعٍ قويٍّ حول إسرائيل لا يمكن المساس به. كما يكشف صاحب الكتاب عن الأساليب المستخدمة للتأثير على القرارات السياسية والتغطية الإعلامية وصناعة الرأي العام بشأن إسرائيل وفلسطين، ويظهر كيف أدّى تأثير هذا اللوبي إلى قمع كل نقاش عقلاني بشأن فلسطين وإسرائيل، مع ما يترتّب على ذلك من عواقب مدمرة.

وضع بابيه خاتمة قصيرة، كتبها بعد أحداث 7 أكتوبر (2024)، يعترف فيها بأن هذا اللوبي نجح في استمالة مجموعات مصالح منفصلة لتشكيل درع يمكن أن يحمي إسرائيل من المساءلة عن انتهاكاتها العدالة والقانون الإنساني. لكنه يرى الأمر سينتهي إلى حقيقة تبدو بمثابة نقطة ضوء في نهاية النفق عندما كتب: "كثيرون في القرن الحادي والعشرين لا يستطيعون أن يستمرّوا في قبول مشروع استعماري يتطلب احتلالاً عسكرياً وقوانين تمييزية من أجل استمراره. وهناك نقطة لا يستطيع عندها هذا اللوبي أن يؤيد هذا الواقع الوحشي، ويستمر في النظر إليه باعتباره أخلاقياً في نظر بقية العالم. وأعتقد وأتمنّى أن نصل إلى هذه النقطة في حياتنا".

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).