14 نوفمبر 2024
الهزيمة ولذَّة الحزن الفكري
نجهل الكثير عن هزيمة حزيران 1967. ومع ذلك، كلما مرّت ذكراها السنوية، نتمرّغ بترابها بنوعٍ من الحزن الفكري اللذيذ. الحزن على الهزيمة، على مآلاتها وعلى ذواتنا. أما اللذة، فمن الحزن نفسه، كوننا شعوباً بكّاءة. ولكن أيضاً على كون التذكّر يعيد تجديد الثقة بما ثبتَ في عقولنا من إيمانات. العلماني من بيننا، أو القومي العربي، أو اليساري، "الديموقراطية"، وطبعا "الناصري"... غالبيتهم العظمى تسْهب في استعادة الوقائع القليلة المتوفِّرة، بإعادة التأكيد على أن الهزيمة إنما حصلت لنقصٍ في العلمانية أو القومية أو الاشتراكية أو الديموقراطية...
لماذا هُزمنا؟ يُعاد السؤال كل سنة، وكل مرة الجواب نفسه: نقصٌ في كذا أو كيت، بحسب ما تكون عليه الأيديولوجيا. حتى إن الصراع السياسي الراهن وجد مُراده في ذكرى حزيران 1967: الذين اعتمدوا وجهة "الممانعين" يقولون لك إن الهزيمة أوصلتنا إلى الحضيض، إيه نعم، ولكن بفضل انتصارات حزب الله، ودعم إيران الإسلامية، رفعنا رأسنا في وجه إسرائيل ومحونا آثارها. فيما خصوم "الممانعين" ينطلقون من هذه "الانتصارات"، ليؤكدوا أنه لولا هزيمة 1967، لما بلغنا حدّ تكوين مليشيات تابعة لإيران، تشتغل على قضية فلسطين، بمهارةٍ لم يسبقها عليها كل الذين أمسكوا بزمامها. بل يذهب أحدنا إلى الجزم، بمناسبة الذكرى الستين لوقوع الهزيمة، بأنه لولاها، لما صعد دونالد ترامب إلى سدّة رئاسة الولايات المتحدة! لتتناثر المقولة، وتزرع في كل حدب وصوب: لولا حزيران 67، لما كانت "داعش"، إسرائيل، إيران، تركيا... وكل المصائب النازلة علينا. والخلاصة أن كل شيء يحصل الآن، أو حصل في وقت قريب، أو سيحصل غداً، وهو من طبيعة المصائب الكبرى، ما كان مكتوباً له الحصول لولا الهزيمة. لا شيء يدهشنا، لا شيء يفاجئنا... كل قاعٍ جديد نبلغه مكتوبةٌ حروفه على لوح الهزيمة. هزيمةٌ لا نعلم أصلاً عنها الكثير، نحزن بشدة عليها، ولكن بلذّة فكرية، ترسم لنا طريق الهزائم المقبلة.
الخسارة الأكبر، الفكرية، التي تصيب عقلنا نتيجة هذا التقبيل السنوي لأيادينا، هي رؤيتنا التاريخ. كل سنة، سنةً بعد أخرى، يزداد تصوّرنا للتاريخ جموداً؛ فعندما تكون لازمتنا إن كل المصائب ضربتنا وسوف تضربنا هي نتيجة هزيمة 67... يكون هذا التاريخ مثل نهر هادئ طويل، لا تشوبه ولا تمويجةٌ واحدة، ولا فيضان أو جفاف، ولا حتى هدير بلا معنى... يسير بثقةٍ من قاع إلى آخر، من دون أية خدعةٍ تاريخية أو مراوغة، من دون مفاجأة، ولا ارتجال. كل هذا الذي مرّ علينا خلال العقود الستة السابقة التي تلَت حزيران 67 هو تاريخ واثق بنهايته، مطمئن إلى كارثيته..
وقد يكون هذا التجفيف لديناميكية التاريخ السبب وراء تحوّل حملات المعاداة للتطبيع مع إسرائيل إلى ما يشبه التعويذة، أو الرقية، التي تكتب عليها أصناف الأدعية، وتعلق على الصدور اتقاء للشرّ. قد يكون فقر مفهوم التاريخ هو الذي يحوّل حملات المقاطعة إلى ما يشبه الوسْواس العُصابي. خذْ مثلاً عن أوجه "المقاطعة" هذه: في اليوم نفسه الذي مُنع فيه عرض أحد الأفلام، في الصالات البيروتية، لأن بطلتها فنانة إسرائيلية، كان مطار بيروت يمنع دخول فلسطينيين ممن يسمّون "فلسطينيي 1948"، أي الذين بقي آباؤهم في إسرائيل، ولم يخرجوا منها بعد النكبة. والسبب أنهم يحملون جوازات سفر إسرائيلية. بل يمكن أن يُمنع آخرون، من جنسياتٍ عربية أخرى، من الدخول، لو كان على جوازاتهم ختم إسرائيلي... الأمثلة عن هذه التمائم لا تحصى. والمهم فيها، عقمها "التاريخاني"، قاعدتها في رؤية تنبؤية للتاريخ: نهر هادئ طويل، منبعه حزيران 67، لا يتزحزح مليمترا واحدا عن شواطئه؛ ومصبّه الحتمي هو مستقبلنا الأسود الذي يؤكد على صحة تفكيرنا.
طبعاً، سوف تمرّ سنوات، ربما عقود، قبل أن يُكشف، على الأقل، عن الأرشيفَين، العسكري والسياسي لهزيمة 67، فنعدِّل ساعتئذ سؤالنا الأبدي "لماذا هُزمنا؟"، ثم ننتقل إلى سؤال آخر: "كيف هُزمنا؟". أي من التقييم المريح، المعزِّز قناعاتنا المسْبقة، إلى التشكيك بها، ومن دون وَجَل. وذلك على الجبهات كافة، ليس فقط الجبهة المصرية التي حمّلناها ربما أكثر مما تحتمل. الأرشيفان السوري والأردني يحتاجان أيضا إلى الكشف. وعبد الناصر لم يكن وحده؛ كان هناك حافظ الأسد والملك حسين، أيضاً. وقد لا تكون هزيمة 67 وحدها التي أرفدت تاريخنا بسواقٍ أخرى، بأنهار أخرى.. تنقّح بصيرتنا من عيوب إفقارنا تاريخنا، وقد حوَّلناه إلى سلسلة متوقعة من الخرائب.
لماذا هُزمنا؟ يُعاد السؤال كل سنة، وكل مرة الجواب نفسه: نقصٌ في كذا أو كيت، بحسب ما تكون عليه الأيديولوجيا. حتى إن الصراع السياسي الراهن وجد مُراده في ذكرى حزيران 1967: الذين اعتمدوا وجهة "الممانعين" يقولون لك إن الهزيمة أوصلتنا إلى الحضيض، إيه نعم، ولكن بفضل انتصارات حزب الله، ودعم إيران الإسلامية، رفعنا رأسنا في وجه إسرائيل ومحونا آثارها. فيما خصوم "الممانعين" ينطلقون من هذه "الانتصارات"، ليؤكدوا أنه لولا هزيمة 1967، لما بلغنا حدّ تكوين مليشيات تابعة لإيران، تشتغل على قضية فلسطين، بمهارةٍ لم يسبقها عليها كل الذين أمسكوا بزمامها. بل يذهب أحدنا إلى الجزم، بمناسبة الذكرى الستين لوقوع الهزيمة، بأنه لولاها، لما صعد دونالد ترامب إلى سدّة رئاسة الولايات المتحدة! لتتناثر المقولة، وتزرع في كل حدب وصوب: لولا حزيران 67، لما كانت "داعش"، إسرائيل، إيران، تركيا... وكل المصائب النازلة علينا. والخلاصة أن كل شيء يحصل الآن، أو حصل في وقت قريب، أو سيحصل غداً، وهو من طبيعة المصائب الكبرى، ما كان مكتوباً له الحصول لولا الهزيمة. لا شيء يدهشنا، لا شيء يفاجئنا... كل قاعٍ جديد نبلغه مكتوبةٌ حروفه على لوح الهزيمة. هزيمةٌ لا نعلم أصلاً عنها الكثير، نحزن بشدة عليها، ولكن بلذّة فكرية، ترسم لنا طريق الهزائم المقبلة.
الخسارة الأكبر، الفكرية، التي تصيب عقلنا نتيجة هذا التقبيل السنوي لأيادينا، هي رؤيتنا التاريخ. كل سنة، سنةً بعد أخرى، يزداد تصوّرنا للتاريخ جموداً؛ فعندما تكون لازمتنا إن كل المصائب ضربتنا وسوف تضربنا هي نتيجة هزيمة 67... يكون هذا التاريخ مثل نهر هادئ طويل، لا تشوبه ولا تمويجةٌ واحدة، ولا فيضان أو جفاف، ولا حتى هدير بلا معنى... يسير بثقةٍ من قاع إلى آخر، من دون أية خدعةٍ تاريخية أو مراوغة، من دون مفاجأة، ولا ارتجال. كل هذا الذي مرّ علينا خلال العقود الستة السابقة التي تلَت حزيران 67 هو تاريخ واثق بنهايته، مطمئن إلى كارثيته..
وقد يكون هذا التجفيف لديناميكية التاريخ السبب وراء تحوّل حملات المعاداة للتطبيع مع إسرائيل إلى ما يشبه التعويذة، أو الرقية، التي تكتب عليها أصناف الأدعية، وتعلق على الصدور اتقاء للشرّ. قد يكون فقر مفهوم التاريخ هو الذي يحوّل حملات المقاطعة إلى ما يشبه الوسْواس العُصابي. خذْ مثلاً عن أوجه "المقاطعة" هذه: في اليوم نفسه الذي مُنع فيه عرض أحد الأفلام، في الصالات البيروتية، لأن بطلتها فنانة إسرائيلية، كان مطار بيروت يمنع دخول فلسطينيين ممن يسمّون "فلسطينيي 1948"، أي الذين بقي آباؤهم في إسرائيل، ولم يخرجوا منها بعد النكبة. والسبب أنهم يحملون جوازات سفر إسرائيلية. بل يمكن أن يُمنع آخرون، من جنسياتٍ عربية أخرى، من الدخول، لو كان على جوازاتهم ختم إسرائيلي... الأمثلة عن هذه التمائم لا تحصى. والمهم فيها، عقمها "التاريخاني"، قاعدتها في رؤية تنبؤية للتاريخ: نهر هادئ طويل، منبعه حزيران 67، لا يتزحزح مليمترا واحدا عن شواطئه؛ ومصبّه الحتمي هو مستقبلنا الأسود الذي يؤكد على صحة تفكيرنا.
طبعاً، سوف تمرّ سنوات، ربما عقود، قبل أن يُكشف، على الأقل، عن الأرشيفَين، العسكري والسياسي لهزيمة 67، فنعدِّل ساعتئذ سؤالنا الأبدي "لماذا هُزمنا؟"، ثم ننتقل إلى سؤال آخر: "كيف هُزمنا؟". أي من التقييم المريح، المعزِّز قناعاتنا المسْبقة، إلى التشكيك بها، ومن دون وَجَل. وذلك على الجبهات كافة، ليس فقط الجبهة المصرية التي حمّلناها ربما أكثر مما تحتمل. الأرشيفان السوري والأردني يحتاجان أيضا إلى الكشف. وعبد الناصر لم يكن وحده؛ كان هناك حافظ الأسد والملك حسين، أيضاً. وقد لا تكون هزيمة 67 وحدها التي أرفدت تاريخنا بسواقٍ أخرى، بأنهار أخرى.. تنقّح بصيرتنا من عيوب إفقارنا تاريخنا، وقد حوَّلناه إلى سلسلة متوقعة من الخرائب.