24 أكتوبر 2024
الهبة الفلسطينية بين العفوية والتثمير
عندما تكون هناك هوة بين الشارع والقوى السياسية، نكون أمام ميزة وعيب في الوقت نفسه. الميزة أن الشارع لا يكون أسير الاعتبارات التي تضعها القوى السياسية أمامها، بحيث يستطيع أن يبادر إلى الإعلان عن احتجاجاته في مواجهة السياسات القمعية. وبذلك، يكون متحررا من اعتبارات وحساباتٍ كثيرة تخضع لها مساومات القوى السياسية. أما العيب، فهو فقدان التحركات الاحتجاجية الإطار الناظم للفعل النضالي على المستوى الوطني، ما يهدد استمرارها، ويجعل نضالاتها عرضه للتبدد، لأنه ليس هناك من يقوم بدور التثمير السياسي للعملية الكفاحية ويديرها.
هذا حال الهبة الشعبية في الأراضي الفلسطينية. انشغلت القوى السياسية، على مدى السنوات الثماني الماضية، في القضايا الخلافية بشأن الانقسام الداخلي، وبات هذا الخلاف الشغل الشاغل للقوى السياسية الفلسطينية في كل الطيف السياسي. في الوقت الذي استمرت سلطات الاحتلال في سياسة قضم الأرض الفلسطينية، وتعزيز الاستيطان والتضييق على الفلسطينيين في كل الجوانب. وقد جعل ذلك كله الأراضي الفلسطينية مرجلاً يغلي، قابلاً للانفجار في أي لحظة. كان على القوى السياسية أن تعمل من أجل هذه اللحظة، أو أن تكون جاهزة لها في أسوأ الحالات. لكن الصدام مع الاحتلال كان أمنية لا أحد يريد تحقيقها، أو إذا تحققت تم العمل على توظيفها فئوياً في إطار داخلي.
الغريب أن ما يجري في الأراضي الفلسطينية كان متوقعا، لكن هذا المتوقع لم يجد من القوى السياسية من يتعامل معه بجدية إلى اليوم، على الرغم من كل الادعاءات من الجميع أنهم آباء الولد (الهبة). لكن الأوضاع بقيت تتفاعل داخل المجتمع الفلسطيني الذي أوجدت لديه سياسات الاحتلال اليأس من كل حل. وحتى اليأس من أن تصبح الحياة العادية لهم أفضل، ولأن الاحتلال عمّم الظلم على الجميع في الأراضي الفلسطينية، كانت الحالة بحاجة إلى شرارةٍ، ليشتعل الوضع في مواجهة الاحتلال. وكانت الشرارة حرق أسرة دوابشة في منزلها في نابلس، واستشهاد الرضيع والأبوين. وكان اللافت في الهبة الشعبية الجارية في الأراضي الفلسطينية أن مكونها الأساسي هو الجيل الذي ولد بعد اتفاقات أوسلو، والذي من المفترض أن يكون جيل السلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني الذي وعدت به اتفاقات أوسلو، التي لم يبقَ منها على إجحافها بحق الفلسطينيين سوى التنسيق الأمني، والمساعدات الدولية التي ساهمت فعلياً في تأخير الانفجار في مواجهة الاحتلال. وجد هذا الجيل الذي وعِدَ بالسلام السياسات الإسرائيلية في ظل هذا الوعد أكثر شراسة من التي كانت قبله، وزحف الاستيطان أخطر وأشرس، وبمعدلات غير مسبوقة. ذلك كله جعل هذا الجيل يفهم، وبالوقائع، العملية الصارخة، أن وعد السلام ليس زائفاً وحسب، بل مضلل أيضا، وأن الاحتلال هو الاحتلال، والاستيطان هو الاستيطان، مهما حاول التخفي بوعود غير قادر على تحقيقها، بحكم طبيعته الاحتلالية التي تستهدف الأرض الفلسطينية، والتي لم تتغير حتى بعد اتفاقات أوسلو.
واضح أن الجيل الجديد الذي فجر الهبة الشعبية كان الأكثر ابتعاداً عن القوى السياسية
الفلسطينية، وهذه لم تعد تملك أي جاذبية سياسية أو نضالية للالتحاق بها، بعد معرفتها عن قرب، بفعل إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية. جعلت هذه المعرفة العمل الكفاحي الوطني العام، اليوم، يتمركز، أساساً، خارج هذه الفصائل، على الرغم من البيانات التي تدعي تبني الهبة وقيادتها. فالعمل بالسكاكين لا يحتاج إلى أي إمداد لوجستي أو تمويلي أو تدريبي من أي أحد، فالأدوات الكفاحية موجودة في مطبخ كل بيت. والأدوات القادمة من المطابخ من الطبيعي أن تكون آتية من خارج السياق السياسي الفلسطيني الفصائلي، فهي حالات فردية، وقرار فردي ذاتي، وليس له علاقة لا بمجموعات أو خلايا فصائلية، والجميع بدون خلفية أمنية، حسب أجهزة الأمن الإسرائيلية، سواء من قاموا بالعمليات التي جرت في القدس والضفة الغربية، أو التي جرت داخل إسرائيل. يؤشر ذلك كله على بعد فلسطيني مهم تعيشه التجربة الفلسطينية، وهو الانفصال بين الشارع الفلسطيني والقوى السياسية. صحيح أنه، في التجربة الفلسطينية، لم يكن دائما هناك تطابق بين الحالتين، الفصائلية والشعبية، لكنها لم تكن يوماً تعيش هذه الهوة الكبيرة التي تشير إلى اغتراب حقيقي للفصائل الفلسطينية عن الشارع الفلسطيني، وعن عدم قدرة على قراءة هذا الواقع الكفاحي، دعك من إمكانية قيادته.
الدرس الأساسي الذي تقوله الهبة الشعبية إن التناقض مع الاحتلال الاستيطاني غير قابل للحل، طالما ليس هناك استعداد للاعتراف والإقرار. وبالتالي، إعطاء الفلسطينيين حقهم في أرضهم. التسويف يدخل الفلسطينيين في حالة من اليأس، تستدعي انتفاضهم على الاحتلال مرة بعد أخرى. وبالتالي، ما يجري اليوم هو حلقة في صراع مع احتلال أرادته إسرائيل طويلاً ومريراً، في وقت يقف فيه العالم عاجزاً عن اتخاذ أية مبادرة، ليفرض على إسرائيل حلا يقرّ بالحقوق الوطنية الفلسطينية. ولذلك، بات واضحاً أن الممر الإجباري أمام الفلسطينيين هو المزيد من الكفاح في مواجهة الاحتلال، فلا خيار آخر أمامهم. والسؤال عن جدوى الكفاح يبدو نافلاً عند السؤال عن محصلة العملية الكفاحية. هذا لا يعني أن الكفاح الفلسطيني يائس، على العكس، إنه كفاح الأمل في شروط يائسة، إنه الانبعاث من العدم في كل مرةٍ يُراد فيها إخفاء الفلسطينيين عن الخريطة وسرقة أراضيهم.
التناقض مع الاحتلال موضوعي، وليس لأن الفلسطينيين يرغبون في الموت، فهم يموتون بنيران الاحتلال كل الوقت، من دون مواجهات، فالاحتلال جلاد في كل وقت. وكان آن للفلسطينيين أن يقولوا: لا مرة جديدة للاحتلال، فكانت الهبة الشعبية.
هذا حال الهبة الشعبية في الأراضي الفلسطينية. انشغلت القوى السياسية، على مدى السنوات الثماني الماضية، في القضايا الخلافية بشأن الانقسام الداخلي، وبات هذا الخلاف الشغل الشاغل للقوى السياسية الفلسطينية في كل الطيف السياسي. في الوقت الذي استمرت سلطات الاحتلال في سياسة قضم الأرض الفلسطينية، وتعزيز الاستيطان والتضييق على الفلسطينيين في كل الجوانب. وقد جعل ذلك كله الأراضي الفلسطينية مرجلاً يغلي، قابلاً للانفجار في أي لحظة. كان على القوى السياسية أن تعمل من أجل هذه اللحظة، أو أن تكون جاهزة لها في أسوأ الحالات. لكن الصدام مع الاحتلال كان أمنية لا أحد يريد تحقيقها، أو إذا تحققت تم العمل على توظيفها فئوياً في إطار داخلي.
الغريب أن ما يجري في الأراضي الفلسطينية كان متوقعا، لكن هذا المتوقع لم يجد من القوى السياسية من يتعامل معه بجدية إلى اليوم، على الرغم من كل الادعاءات من الجميع أنهم آباء الولد (الهبة). لكن الأوضاع بقيت تتفاعل داخل المجتمع الفلسطيني الذي أوجدت لديه سياسات الاحتلال اليأس من كل حل. وحتى اليأس من أن تصبح الحياة العادية لهم أفضل، ولأن الاحتلال عمّم الظلم على الجميع في الأراضي الفلسطينية، كانت الحالة بحاجة إلى شرارةٍ، ليشتعل الوضع في مواجهة الاحتلال. وكانت الشرارة حرق أسرة دوابشة في منزلها في نابلس، واستشهاد الرضيع والأبوين. وكان اللافت في الهبة الشعبية الجارية في الأراضي الفلسطينية أن مكونها الأساسي هو الجيل الذي ولد بعد اتفاقات أوسلو، والذي من المفترض أن يكون جيل السلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني الذي وعدت به اتفاقات أوسلو، التي لم يبقَ منها على إجحافها بحق الفلسطينيين سوى التنسيق الأمني، والمساعدات الدولية التي ساهمت فعلياً في تأخير الانفجار في مواجهة الاحتلال. وجد هذا الجيل الذي وعِدَ بالسلام السياسات الإسرائيلية في ظل هذا الوعد أكثر شراسة من التي كانت قبله، وزحف الاستيطان أخطر وأشرس، وبمعدلات غير مسبوقة. ذلك كله جعل هذا الجيل يفهم، وبالوقائع، العملية الصارخة، أن وعد السلام ليس زائفاً وحسب، بل مضلل أيضا، وأن الاحتلال هو الاحتلال، والاستيطان هو الاستيطان، مهما حاول التخفي بوعود غير قادر على تحقيقها، بحكم طبيعته الاحتلالية التي تستهدف الأرض الفلسطينية، والتي لم تتغير حتى بعد اتفاقات أوسلو.
واضح أن الجيل الجديد الذي فجر الهبة الشعبية كان الأكثر ابتعاداً عن القوى السياسية
الدرس الأساسي الذي تقوله الهبة الشعبية إن التناقض مع الاحتلال الاستيطاني غير قابل للحل، طالما ليس هناك استعداد للاعتراف والإقرار. وبالتالي، إعطاء الفلسطينيين حقهم في أرضهم. التسويف يدخل الفلسطينيين في حالة من اليأس، تستدعي انتفاضهم على الاحتلال مرة بعد أخرى. وبالتالي، ما يجري اليوم هو حلقة في صراع مع احتلال أرادته إسرائيل طويلاً ومريراً، في وقت يقف فيه العالم عاجزاً عن اتخاذ أية مبادرة، ليفرض على إسرائيل حلا يقرّ بالحقوق الوطنية الفلسطينية. ولذلك، بات واضحاً أن الممر الإجباري أمام الفلسطينيين هو المزيد من الكفاح في مواجهة الاحتلال، فلا خيار آخر أمامهم. والسؤال عن جدوى الكفاح يبدو نافلاً عند السؤال عن محصلة العملية الكفاحية. هذا لا يعني أن الكفاح الفلسطيني يائس، على العكس، إنه كفاح الأمل في شروط يائسة، إنه الانبعاث من العدم في كل مرةٍ يُراد فيها إخفاء الفلسطينيين عن الخريطة وسرقة أراضيهم.
التناقض مع الاحتلال موضوعي، وليس لأن الفلسطينيين يرغبون في الموت، فهم يموتون بنيران الاحتلال كل الوقت، من دون مواجهات، فالاحتلال جلاد في كل وقت. وكان آن للفلسطينيين أن يقولوا: لا مرة جديدة للاحتلال، فكانت الهبة الشعبية.