بعد أن تركها نهباً للمسافات المنذورة لتذويب الواقع مع المخيال، منذ أكثر من أربعة عقود، تعاود لوحة الفنان المغربي الهاشمي عزّة (1950)، في معرضه الاستعادي، الذي أقيم، أخّيراً، في "المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة" في عمّان، الكشف عن السياق الذي جعل منها مساحةً أثيرةً للتخوم المتحرّكة بين واقعٍ يؤطّره العيان، وبين خيالٍ مُتفلّتٍ من إطار التعيين.
السياق التعبيري والجمالي لأعمال المعرض، لم يكن من صنيعة تلك التخوم فقط، وإنما من صنيعة الفن وفرادته في ابتكار النسيج التشكيلي الذي جعل من لوحة الهاشمي سطحاً تصويرياً لعالمٍ تنتفي معه الحدود الفاصلة بين المرئي واللامرئي. العالم الذي يصوّره الفنان الدارس للفنون الجميلة في تطوان بالمغرب، وفي أكاديمية الفنون الجميلة، والمدرسة الوطنية العليا للهندسة المعمارية والفنون البصرية في بروكسل، منذ 1966 وحتى 1977؛ ليس العالم نفسه الذي يدعونا إلى معاينة ظواهره، والتبصّر في أحواله وتحولاته "بعيونٍ جديدةٍ"، وإنما عالمٌ آخر مفتوح على التنافرات والتجاذبات بين مرئيات الواقع ومخيالها.
لا تستدعي أعمال المعرض الذي ضم نحو 160 عملاً غرافيكياً، أهداها الفنان إلى المتحف الوطني لتصبح ضمن مجموعته الدائمة، عيوناً جديدةً للإحاطة بفرادة تصويراتها. فقط، تتطلّبُ الوقوف على تلك المسافة التي تتيح "الاستماع" إلى المفارقات وهي تتناسل من مناخاتها الغرائبية، وكأنها وليدةُ عالم جنيني قيْدَ التشكّل.
الهاشمي الذي انتقل مع معرضه من ألمانيا إلى الأردن أستاذاً للفنون في الجامعة الأردنية، لا يلتفت حين يقول "علينا أن نرى العالم بعيونٍ جديدةٍ" إلى ما يشوب هذه العبارة، عادةً، من استهلاك وتقليد. فتجربته المختلفة في مجاله الإبداعي، رؤيةً وتقنيةً، خصوصاً في فن الحفر، وفي فرعه المعروف بـ "الميزوتنت"، تنأى به عن فخ الاجترار والتقليد.
وهو حين يرى، في حديثه إلى "العربي الجديد"، أن العيون الجديدة التي علينا امتلاكها من أجل قراءة العالم "هي بالضرورة تلك العيون التي تمتلك خاصية النفاذ إلى جوهر الحياة"، فإنه يؤكّد ضرورة إعادة إنتاج العالم وفق الشرط الجمالي والأخلاقي الذي يليق بالإنسان: "يقتضي تكنيس تراكمات الغبار التي باتت تحجب اليوم، بفعل التسطيح والتجهيل، أفق النور والتنوير، لصالح أعداء الحياة، وحرّاس الظلام".
على الرغم من منحاها السوريالي بمسحتها الحلمية والغرائبية، إلا أن لوحاته التي توزّعت طوال مسيرته الفنية على أكثر من 120 معرضاً فردياً وجماعياً، ظلّت على تماس مع إرثها الإنساني الحافل بالمداولات الأسطورية، والأحداث التاريخية والواقعية، وهو ما تغطّيه العديد من مجموعات المعرض، مثل "الخطيئة" و"تاريخ التفاحة" و"إعادة التكوين".
ولم تغفل أعمالهُ، برهافتها التعبيرية، عن معاينة عوالم الإنسان والتباساته الوجودية المصاحبة للقلق والاغتراب: "الفنان الحقيقي مغتربٌ في هذا العالم"؛ تعبيرٌ سرعان ما يُحيلنا إلى لوحاته التي تقطرُ بمكابدات الاغتراب نفسه، مثل: "المنفى" و"الصرخة" و"احتجاج" و"وهم" و"هشاشة" و"أنا اعترض".
بينما تشكّل لوحته "تحية إلى غويا" مقاربة رمزية للوحة "إعدام الثوّار رمياً بالرصاص"، التي رسمها الفنان الإسباني عام 1814، تُشكّل لوحاتٌ أخرى إدانةً صارخةً للتوحّش وسفك الدماء، ومآسي التمييز العنصري، والتطهير العرقي، مثل: "ذكريات من أفريقيا" و"نحيب انتفاضة" و"تحية إلى سراييفو" و"صرخة كوسوفو" و"سقوط بغداد".
ولا يخفي الفنان قلقه وألمه من الفوضى والخراب في غير مكانٍ من العالم، خصوصاً العالم العربي والإسلامي: "أتألم، بوصفي إنساناً، من تفشّي شريعة الغاب، وشاهداً على نذير خرابٍ يهدّد العالم الذي أسكن فيه".
الهاشمي الذي تنوّعت نتاجاته بين الرسم والنحت والتصوير والشعر، وحقّقت حضوراً استثنائياً في مجال فن الحفر الذي جعل منه أفقاً مفتوحاً على انصهار التقنية مع الرؤية في سياقٍ تعبيريٍ قلّ نظيره، عربياً وعالمياً؛ ظلّ منحازاً إلى قضايا الإنسان، ونافذاً إلى هواجسه الواقعية والحلمية، ما مكّنه من الوقوف على فيضٍ واسعٍ من الاستعارات التمثيلية التي توفرت عليها لوحته، بوصفها "خُلاصة ترسّبات الحوار المشترك بين الفنان وموضوع التعبير"، كما يقول الفنان الذي أحال خُلاصة موضوعاته عبر "تقطيرها" على سطح التصوير، إلى مُحفّزاتٍ بصريةٍ ذات صبغةٍ تأمّلية، أكثر من كونها استعارات شكلية.
والنتيجةُ، لوحةٌ تستحيل بكلّيتها، إلى حقلٍ من الدلالات التي تُرمّز الواقع، وتمنحه أجنحة المخيال. فيما يكتسب حضور الإنسان في اللوحة ذاتها، مذاقاً مُفارقاً للغياب.
"بعد انتهائي من اللوحة، أشعر وكأنني ممسوس"، يقول الهاشمي الذي تخصّص منذ عام 1975 في تقنية "الميزوتنت" التي ابتكرها الفنان الألماني لودفيغ فون سييغن أواسط القرن السابع عشر. مقولته تكاد تنطبق، أيضاً، على متلقّي لوحته التي جعل منها على مدار نحو نصف قرن، وعِبر سلسلة من الاستنباطات التعبيرية والتقنية؛ مشهداً مفتوحاً على حواريةٍ لا تبدأ من التباس الحدود بين الواقع والمخيال، ولا تنتهي بذوبانهما معاً في "لعبة" تبادل الأدوار على سطح موشوم بعلامات واقعٍ مسحور.
لا يخرج فعل الرسم نفسه لدى الفنان، عن إطار الفعل "الممسوس"، حتى وإن اعتمد ضبط سلسلة العلاقات بين المفردات البصرية للموضوع، والروافع الجمالية والتقنية لشرط التعبير، باعتبارهما متغيّرين متلازمين يغذّي كل منهما الآخر: "لو أعرف، مسبقاً، ما سوف أرسمه تماماً، لما رسمت أبداً". إنها مجرد حدوسات، ما أن تتحقّق، حتى يصاب صاحبها بمسٍ خلاّق، ونصاب معها بتلك الدهشة التي تشكّل "قطيعتها السحرية" مع مرئيات الواقع والمخيال على حد سواء.
اقرأ أيضاً: بهرم حاجو: قسمات العزلة