النيل وليل نظام السيسي

19 نوفمبر 2017

شيرين.. استغلال سياسي لحديثها عن "بلهارسيا النيل" (الأناضول)

+ الخط -
حين تصوّر الدولة وإعلامها أنّ دعابةً، حتى ولو كانت سمجة، هي قضية أمن قومي. وحين تتحسّس الدولة الأمنية من كلام عابر، وتمحو مساهمات فنانين لهم جمهورهم. وحين تلغي ذلك كله، وتعمل على تجييش الرأي العام ضد قولٍ عابر، تكون قد أدخلت نفسها في مزايدات حبّ الوطن، وقياس عدمه بمثل هذه الهفوات، آملةً في صرف الأنظار عن الفشل المقيم في إدارة موارد الدولة وسياساتها واقتصادها.
وهكذا، كانت الحملة على المغنية المصرية، شيرين عبد الوهاب، من دون مبرّر واضح، تسابق فيها فنانون بالتوقيع على إدانتها لإثبات وطنيتهم. وعندما أصدرت نقابة المهن الموسيقية قرار إيقافها، لم تكن هذه إلّا نقطة هروبية إلى الوراء، إلى حيث تاريخ الفيديو القديم، وهي ترد في إحدى حفلاتها على طلب أغنية، بأنّ مياه النيل تجلب مرض البلهارسيا، ليتم اصطياده وتقديمه ملهاة للجمهور، وتسير بذكره ركبان الأسافير، عوضاً عن ترقّبهم ولهفتهم الثائرة خوفاً على النيل.
لا يقلّل تعليق شيرين من شأن بلدها وتاريخها، أو مكانة النهر العظيم في نفوس شعبي وادي 
النيل، لكن الغرض يتضح عندما تتم مقارنة كلماتها تلك ببرامج كاملة، تم تقديمها على القنوات المصرية عن التلوّث في مياه النيل، نتيجة الإهمال ورمي الأوساخ، وكلها تمت باستطلاع المواطنين والصيادين، ونوقشت مع خبراء في الصحة، فلم تثر مثل ما أثاره هذا التعليق. كان مفترضا أن يقوم الاعتذار الرسمي الذي قدمته الفنانة عن هذا الخطأ مقام غفران لها، وتمرّ الحادثة كما لم تكن، ولكن النظام يأبى إلّا أن يستلذّ بهذه الأزمة التي استخرجها من الجبّ، لأغراض التعمية من الجو السائد في مصر.
ملمحان رئيسيان لهذه الأزمة، الأول هو الحال العام في مصر، منذ انقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي في 3 يوليو/ تموز 2013، وعمله على بسط أجهزته الأمنية على كل مفاصل الدولة. وبتحسّس الدولة الأمنية من كل ما يصدر من أوعية الثقافة والفنون والإعلام، أوجدت إعلاما موازيا يحتوي على الموالين للنظام، وعملت على إيجاد ثقافة مدجنة وفن لا يعرف غير مدح السلطان، فإن تفوّه فرد من هذه القطاعات يكون نصل اغتياله المعنوي على يد النظام ومعاونيه.
لم تكن الثقافة، بكل أشكالها ورموزها الأدبية والفنية مزدهرة بالحريات، في عهد حسني مبارك، فقد كانت هناك رقابة على المثقفين، وكانت الثقافة مسيّسة، وكانت الفرق الفنية والتجمعات الأدبية والثقافية مُخترقة أمنياً. وعلى الرغم من ذلك، فاق التضييق على الثقافة والفنون الآن ذلك الذي كان يُمارس في عهد مبارك، حتى أوصلها إلى درجة اللزوجة. وأحاط نظام السيسي الثقافة والفنون بسور الدولة الأمنية. تفكّكت الثقافة والأيديولوجيا، وغاب البعد السياسي، واستبدل بالبعد الأمني الذي يطغى على ما سواه. كما عمل على جعل الثقافة قسماً تابعاً لجهازه الأمني الذي حمّل الثقافة خطاباً إعلامياً فجّاً في خدمة سياسة النظام. تراجع المُنتج إلى أدنى مستوياته، نتيجة قمع النظام واشتراطاته، بسبب السيطرة الأمنية. أصبحت الأعمال المسموح بإنتاجها تقتصر على التي تمجّد النظام وتهلّل له، ما أدى إلى بروز سلطة رسمت للحيز الذي يشغله الفن والثقافة حدوداً صارمة، قد يتم حسمها بالعنف، إذا لزم الأمر.
يرتبط الملمح الآخر ارتباطاً مباشراً بالتعقيد الذي يصاحب ملف أزمة سد النهضة الإثيوبي، 
وفشل الحكومة المصرية في التوافق مع أطراف القضية على حلّ، حيث أصبحت الحساسية من إيراد اسم النيل عالية، ولو بأثر رجعي كما جاء في تعليق شيرين. سبقت هذا الإخفاق محطات فشل على مدى المفاوضات العديدة السابقة. ولكن يختلف الأمر هذه المرة بأنّ إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي، هايله ميريام ديسالين، عن نجاح مشروع سدّ النهضة الإثيوبي، جاء من الدوحة، حيث أرجع الفضل في ذلك إلى جالية بلاده المقيمين في قطر، على الرغم من قلة عددهم ومساهماتهم. وتزامن ذلك مع إعلان وزير الموارد المائية والري المصري، محمد عبد العاطي، تعثّر مفاوضات السد، كما كشفت عن ذلك نتائج الاجتماع الـ17 للجنة الفنية الثلاثية للسد، في القاهرة أخيرا، بحضور وزراء المياه من مصر والسودان وإثيوبيا. فكان لا بد من تفجير ما يشغل الناس بالهرب من فشل المفاوضات. وهنا يكمن الربط بين حالة خلاف واسعة بين مصر والسودان وإثيوبيا، مصاحباً اشتراك مصر في الأزمة الخليجية الماثلة منذ أشهر. ومن الدوحة يتم إعلان نجاح المشروع الذي فشل النظام المصري في تحقيق أدنى مستويات الاستفادة منه.
لا تشبه أزمة سد النهضة، هذه المرة، أي أزمة سابقة، فمنذ تقديم المكتب الفرنسي المنفذ للدراسات تقريره الاستهلالي في مارس/ آذار الماضي، والمتضمن مراحل تنفيذ دراستين فنيتين، أوصى بهما تقرير اللجنة الدولية في مايو/ أيار 2013، لم يتوصل وزراء الري في الدول الثلاث إلى اتفاق بشأن اعتماده، حيث رفض السودان وإثيوبيا الموافقة على التقرير، فيما وافقت عليه مصر.
في خضم هذه الأزمة، ونظراً للظروف المصاحبة لها، بحث المنقبّون من لجان السيسي عمّا يشتّت الرؤية عن فشل النظام في حل الأزمة، وعمّن يقدّمهم قرابين لمواجهة الضغط الشعبي، بعد أن كان يتعامل مع القضية بالتعمية في السنوات الماضية، فلم يجدوا غير فيديو شيرين، ليشيعوا إدانتها الممزوجة بواجب تقديس النيل.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.