الناجي الوحيد
مثل كل الأمهات في غزة، اللواتي شهدن أهوال ثلاث حروب متتالية، منذ عام 2008، كنت أدعو الله دائماً أن يكتب لي الحياة أو الموت مع أولادي، فلم أتصور الحياة بدونهم، وهم لم يتخيلوا الحياة بدوني، وإن كان الله قد كتب لي النجاة مع أولادي، فلم يحط العدوان المجنون، أخيراً، على غزة أوزاره، قبل أن يثكل أمهات بفقدان أبنائهن، وأن يصيب الأبناء بفقدان الأم أو الأب أو الاثنين معاً، أو أن تفنى العائلة كلها، ويبقى فرد أو اثنان منها يذوقان مرارة الفقد ولوعة الحرمان. وقد ذكرت إحصائيات رسمية أن أكثر من 93 عائلة غزاوية محيت من السجل المدني، أي أن الأم والأب والأبناء والبنات ارتقوا شهداء دفعة واحدة. ولكن، ربما تعتبر إبادة عائلة كاملة أقل وقعاً من أن تباد، ويبقى فرد واحد منها.
ظاهرة الناجي الوحيد ليست نادرة في التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني، ففي العدوان على غزة، تعددت طرق نجاة هذا الباقي على قيد الحياة، والتي تجعل المرء يشهق ويهتف: سبحان الله، والنتيجة واحدة، فسواء كان قد نجا بأعجوبة أو مصادفة، فإنه أصبح وحيداً بلا الذين كان يشعر معهم بأنه ليس "مقطوعاً من شجرة".
ربما نجا الناجي الوحيد كما نجت طفلة، حين انقلب فوق جسدها طبق لاقط، فحماها من شظايا صاروخ متناثرة أودت بكل أفراد عائلتها، أو إنه نجا لعدم وجوده في البيت لحظه قصفه، وتلقى المكالمة المنذرة بإخلاء البيت وهو بعيد عنه، وظل يركض ويلهث عله ينذر أهله، لكنه وصل متأخراً، ليبقى الناجي الوحيد، فيزمع أن يقيم خيمة على أنقاض البيت، رافضا كل محاولة لاستضافته عند أقاربه. وقد يكون الناجي الوحيد تلك الطفلة التي طار جسدها الصغير من نافذة البيت، بفعل قوة الانفجار، لتستقر في حجر جارتهم التي تحملها وتهرب بها، ويظل أقارب عائلتها التي فنيت يبحثون عنها ثلاثة أيام، حتى يعثروا عليها لتحمل شهادة "الناجية الوحيدة".
الناجي الوحيد في كل حالة سوف يستقر عند أحد الأقارب، وربما كان هذا القريب كبيراً لا يحسن التعامل مع طفل مثلاً. وهنا تقع كارثة، فالناجي الوحيد سنحوله من ضحية مرة واحدة إلى ضحية مرة أخرى، ما لم يتلقفه ملجأ الأيتام الذي قد يكون أكثر رحمةً من حياته لدى أحد قرابته.
الناجي الوحيد، وبعيداً عن العلاج النفسي الذي يُفترض أن يقدم له، مثل إقناعه بأن الموت حق على جميع المخلوقات، فالقطة والكلب اللذان نربيهما في البيت يموتان، يحسن دمجه مع آخرين، فقدوا عائلاتهم، وعدم زجره عندما يبكي بقولنا: لا تبكِ أنت رجل، وإعطاؤه الفرصة ليعبر عن معنى الفقد برسوم قد يرسمها، وعدم إعلامه بحقيقةٍ مجردة صعبة الفهم عليه، مثل إن والديك وعائلتك عند الله، فهو سيشعر بأن الله، سبحانه وتعالى، أخذ منه أعز ما يملك في الحياة. وكذلك الابتعاد عن أنصاف الحلول، مثل أن عائلته سافرت وستعود قريباً، فهو، باختصار، بحاجة ألا نفرض وصايتنا عليه، ليموت ببطء، أو يختنق حباً منا.
آية كانت الناجية الوحيدة من عائلة فلسطينية، قضت إبان الحرب الأهلية في لبنان، وسافرت الجدة العجوز من غزة إلى عمان لاستلامها من جدها لأمها، وحين دخلت الجدة باب البيت في مخيم جباليا، قالت من بين دموعها: جئت مع حفيدتي، وهي عروسك يا حبيب جدتك. كانت توجه حديثها لطفلٍ، ينظر باستغراب للوافدة الجديدة، وهكذا حكمت تلك الجدة من شدة حبها ووفائها لابنها الراحل أن تكون الطفلة آية ضحية، للمرة الثانية، بزواجها من ابن عمها الذي ستتربى معه، مثل أخته في بيت واحد، حتى يشبّا، وستطلب الطلاق منه حتماً، بعد زواجهما بسنوات قليلة.