المُعمّم الشيعي والهلع من النقد
لن تكون هذه السطور تحليلاً لظاهرة المعمّم الشيعي بشكل عام، لكنها ستركز على المعمم الشيعي في المملكة العربية السعودية، لأن دراسة بقية النماذج تحتاج تنقيباً أعمق، ومساحة أكبر، خصوصاً، وأننا نؤمن بأن البيئة الاجتماعية تساهم في صناعة نخبها. نقول ذلك، على الرغم من إدراكنا عملية التفاعل التي تعيشها هذه الطبقة، جراء اختلاطها بقرنائها من النخب الدينية الشيعية، في العراق وإيران، نتيجة الاحتكاك المباشر الذي يجري داخل أسوار الحوزات العلمية، بشكل يومي، بين طلبة العلوم الدينية.
صادف هذا العام من عاشوراء، وهي الذكرى السنوية لمقتل الحسين بن علي عليه السلام، حيث يتخذها الشيعة موعداً لإحياء المناسبة، وتلقى فيها الخطب الوعظية والتوجيهية، وتشكل فرصة لتجديد الاتصال المباشر بين الجمهور الشيعي وطبقة رجال الدين الذين يغيب بعضهم، طوال العام، خارج المملكة، لارتباطه بالتحصيل العلمي، في قم والنجف، في حين ينشغل البقية في أنشطة دينية واجتماعية محلية، ويتوارى آخرون عن الأنظار في انتظار موسمٍ جديد. جرت العادة أن ينصرف الناس لهذه المناسبة، كنوع من ممارسة الطقوس الدينية، وإحياء الشعائر. وهذا النوع من الطقوس مما يغذي الذاكرة الشيعية، ويجعلها حية، وحيوية، حيث يقوم رجال الدين بتجيير المناسبة، كل لما يراه أولوية، فهي مناسبة موسمية، يحضرها الصغير والكبير، المتعلم، وغير المتعلم، فينقسم الخطاب الديني خلالها، بحسب المدرسة التي ينحدر منها المعمم. وبالتالي، لا يخرج الخطاب من الروزنامة التي خرّجته منها دروس المرجعية الدينية، فمن يهتم بالسياسة تجد أن جل جمهوره من المسيسين، ومن يهتم بالشأن الثقافي، وهم قلة، له جمهوره الخاص، لكن الغالبية تكتفي بإعادة سرد الحادثة.
اللافت، هذا العام، أن هجوماً لاذعاً تعرض له المثقف على لسان هؤلاء العلماء، متهمين إياه بعدم الاطلاع قبل الخوض في قضايا ليست من اختصاصه، أو لم "يتبحر" فيها بشكل كاف، في حين أن الغالبية العظمى من هذه الطبقة لا تلتزم بالمواضيع التي "تفقه" فيها، ولا بالمعايير العلمية عند مناقشة قضايا ليست ضمن تخصص علم الدين، لكن القاعدة كانت تسري بأن رجل الدين يحق له ما لا يحق لغيره، ظناً منهم أن المجتمع يعيش في عصر ما قبل الدولة الحديثة، وما قبل حقبة التعليم والمعرفة، حينما كان علم الدين (الفقه تحديداً) العلم الذي لا يعلوه علم، وكان شيخ القرية مركز وجودها، فهو المفتي والقاضي والمعلم والوجيه. أكثر من ذلك، سخر معممون من المثقفين بطريقة استفزازية، كما بدت للبعض، ولا أكاد أفهم سر هذه الغضبة، ولا هذا التوتر من هؤلاء الخطباء؛ لكون الحالة التنويرية في الوسط الشيعي السعودي، أقل ما يقال بحقها، إنها هشّة، على الرغم من انتفاخ المنتمين لها، ولا تكاد تلمس لها أثراً، لا على مستوى الحضور، ولا على مستوى الإنتاج الثقافي.
حقيقةً، لم أجد تفسيراً حقيقياً لهذا الهلع من رجال الدين، إلا إذا أخذنا في الحسبان الخشية على فقدان المنزلة الاجتماعية التي يحظى بها هؤلاء، مقارنة مع بقية المنافسين داخل الحالة الشيعية، ونظرنا لها من زاوية التنافس الطبقي، كون رجال الدين يمكن اعتبارهم طبقة خاصة، تحمل جميع صفات الطبقة، خصوصاً أن رجل الدين لم يكن هو المتربع على عرش المجتمع، في حقبة ما قبل الثورة الإيرانية، بل كان زمام الأمر في يد الوجهاء، غالباً، قبل تضخم دور رجل الدين، حيث كان منصب العمدة يحظى بسلطة ضبط الجناة، ومعاقبة المخالفين، والفصل في المنازعات بين أفراد المجتمع، حينها كانت المنافسة على الزعامة بين العمدة ورجل الدين في أوجها. تغير الوضع، الآن، لم يعد ابن القرية كما كان عليه قبل ثلاثين عاماً، النظرة إلى الدين تغيرت، فضلاً عن إعادة تقييم مكانة رجل الدين ووظيفته الاجتماعية، فقد أصبح كثيرون ينظرون لبعض المعممين طبقة انتفاعية، راكمت رصيدها الاجتماعي، عن طريق الاستثمار في الرموز الدينية، التي لا تنضب، وهي حالة تشبه كثيراً حالة مراكمة رأس المال في الأنظمة الريعية، وليس عن طريق مجهودها العلمي أو العملي.
في الوسط الشيعي، ليس ثمّة ما يستدعي هيجان المعمّمين، لأن الحالة النقدية ضعيفة، ولأن الطائفية السياسية تعزز من أهمية رجل الدين ورمزيته. نمو طبقة اجتماعية وسطى في المجتمع، وحصول الأغلبية على تعليم جيد، أدى إلى التشكيك في المواد المعرفية التي يتلقاها من رجال الدين، وهذا ليس حالة خاصة بالمعمم الشيعي. لذلك، لا شيء يُشير إلى تبدل موازين القوى الاجتماعية، ولا يبدو أن هذه الطبقة تتعرض مكاسبها لتهديد حقيقي، فلماذا الهلع؟