لم تتوضّح المعالم السياسية للاتفاق النووي الإيراني وتداعياته على المنطقة العربية والأزمات المستمرة في كل بلد فيها، عسكرياً وسياسياً أو حتى كيانياً. وتشيع الدول المعنية بهذا الملف أنّ إنجازاً قد تمّ، وأنّ المنطقة في طريقها نحو سلسلة حلول للصراعات فيها، ولحروبها الساخنة والباردة، بحيث تجمع هذه الدول على كون الاتفاق النووي نقطة تحوّل رئيسية تأتي لتقفل صراعاً وتفتح آخر، أو على الأقل تحوّل هذا الصراع من معضلة حول "النادي النووي الدولي" وحرب النفوذ الإقليمي، إلى مهمة رئيسية في "مواجهة الإرهاب ومكافحته".
اقرأ أيضاً روحاني: الاتفاق النووي سيحسّن علاقاتنا الخارجية
ولم يعد هذا الأمر خفياً على أحد في ظلّ تحوّلات مواقف أبرز الدول الغربية من بعض نقاط الصراع، أكان في سورية أو في العراق واليمن. إذ لا يزال اسم بشار الأسد مقبولاً في الصالونات الدبلوماسية الغربية، كما أنّ الأزمة العراقية تحوّلت من كونها أزمة تسلّط فريق على آخر، إلى مواجهة التطرّف نفسه.
وفي هذا الإطار، تقول أوساط دبلوماسية فرنسية لـ"العربي الجديد" إنّ "الاتفاق التفصيلي التقني حول الملف النووي شبه منتهٍ منذ أشهر وكان النقاش عالقاً حول الميثاق السياسي بين الغرب وإيران"، وهو عبارة عن اتفاق سياسي يتضمّن "نظرة شاملة للشرق الأوسط ودور إيران المهم في شتى الملفات الرئيسية في الشرق".
ويشير أحد الدبلوماسيين الفرنسيين، مفضلاً عدم نشر اسمه، إلى أنّ أبرز خلاصات الاتفاق السياسي أنّ إسرائيل لم تعد رأس حربة في المنطقة، ولو أنّ أمنها محفوظ مائة في المائة؛ فانتقال تعريف "الإرهاب"، غربياً، من مكان لآخر يتطلب تغيير أدوات مواجهته. ويؤكّد أنّ أمن إسرائيل محفوظ لأنّ الجهود لم تعد منصبة على جبهة الاحتلال الإسرائيلي ومقاومته، بل بات "الإرهاب" في مكان آخر ويتمثّل في "التطرف الإسلامي" المتجسّد فعلياً بتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). ويضيف الدبلوماسي الفرنسي نفسه أنّ "الخطر من الإرهاب انتقل إلى كل العالم وبات في فرنسا وأوروبا وأميركا"، ومواجهته لا يمكن ان تتمّ سوى في معقله، حيث "لا يمكن لإسرائيل أن تلعب دوراً على هذا الصعيد".
يعتبر الغربيون أنهم نجحوا في إعادة تموضع إيران وتوجيه سياستها "وباتت من الفرق المعتدلة (ضمن الفرق الإسلامية) والمقبولة سياسياً وعقائدياً لدى الغرب"، على حد تعبير الدبلوماسي الفرنسي الذي واكب المفاوضات النووية عن قرب. ويأتي هذا التعديل نتيجة سلسلة من التعهدات التي تم الحصول عليها من الجمهورية الإسلامية، خلال صياغة الاتفاق السياسي على هامش الاتفاق النووي "التقني".
ويؤكد الدبلوماسي الفرنسي أنّ "مشروع أو مفهوم الهلال الشيعي أو الإيراني أو الفارسي قد سقط"، مع المحافظة على نفوذ إيران في المنطقة. ومن جملة التعهدات الأخرى "الاتفاق مع الإدارة الإيرانية على دور جديد وسياق مختلف لأجنحة إيران وأذرعتها المتعدّدة في المنطقة، تحديداً في لبنان واليمن والعراق"، أي حزب الله وجماعة "أنصار الله" (الحوثيين) والمليشيات العراقية.
في ما يخص لبنان تحديداً، ثمة ما يشبه "التعهد بضمان استقرار وأمن هذا البلد وعدم إقدام حزب الله على ما يعرّض سلامة لبنان". يعني ذلك الداخل اللبناني حكماً باعتبار أنّ الجبهة الجنوبية مع فلسطين المحتلة محسوم أمرها بفعل العنوان الأول المتّفق عليه والمتثمل بـ"ضمان أمن إسرائيل".
أما معالجة الملفات الساخنة الأخرى، فستتمّ تباعاً من خلال "بسط مفهوم الولايات"، أو التوجه إلى خارطة تقسيم سياسي في كل نقطة صراع بحسب النفوذ السياسي والاجتماعي داخل كل بلد. ويشير الدبلوماسيون الفرنسيون إلى أنّ "هذا الأمر لا يعني تقسيم المنطقة وخلق كيانات جديدة"، بل العمل على تعميم التجربة العراقية، التي فشلت بعد عشر سنوات من الغزو الأميركي، من خلال تقسيم السلطة والنفوذ وإجبار الجماعات الطائفية والمذهبية أو الإثنية على التعايش في ظل المحافظة على سلطة وخصوصية كل منها. أي أنّ نقاط الصراع في المنطقة العربية متّجهة إلى التخفيف من نارها عبر هذا التقسيم السياسي"، مع التشديد على "الأخذ بعين الاعتبار الأمور الاقتصادية لكل ولاية من هذه الولايات".
وفي مرحلة لاحقة لهذا المشروع "سيكون الجهد مركزاً على تأمين الرخاء الاقتصادي والاجتماعي في هذه المناطق بهدف محاولة ضمان هذه الصيغة والعمل على إيجاد أرضيات سياسية واستراتيجية بين هذه الولايات"، وستكون أولى هذه الأرضيات "مكافحة الإرهاب". ولعل هذا المشروع هو الدافع وراء ارتفاع أصوات بعض الجماعات السياسية المطالبة بـ"الفدرالية"، أو في ذلك أيضاً تبرير للمعارك الشرسة التي تخوضها مجموعات أخرى على الأرض لتوسيع مناطق انتشارها علّها تدخل في حسابات التقسيم الإداري ورقعات النفوذ الداخلية، بحسب ما يروي الدبلوماسيون.
في سورية، إذا كان الحديث عن "مشروع التقسيم" قد انطلق قبل سنتين حيث ظهرت تعابير "الدولة العلوية" أو "سورية المفيدة" و"دولة الساحل السوري" وغيرها، فإنّ الجهود الغربية منصبة على مكان آخر. فالغرب، بحسب الدبلوماسيين الفرنسيين، لا يرى سوى شمالي وشرقي سورية كنقطة أساسية تتطلّب العمل الحثيث والفعلي، أي مناطق نفوذ "الدولة الإسلامية" (داعش) بين الرقة ودير الزور وصولاً إلى العراق. أما "تقسيم سورية إلى مناطق نفوذ فهو قد تمّ ميدانياً"، وربما لا حاجة إلى تكريسه في ظلّ جهود مستحيلة لإرساء توافق بين الأطراف المتصارعة.
يبقى السؤال المحوري حول من هو القادر على استيعاب الساحة السنية وكيف؟ ولا يزال الجواب محصوراً لدى العقل الدبلوماسي الغربي في تعبير "الفرق المعتدلة والمقبولة سياسياً وعقائدياً"، وتبقى "السعودية رأس حربة هذا المحور". ففي مقابل دور إيران، لا يزال الغرب ينظر إلى السعودية كـ"مكوّن أساسي لا يمكن تجاوزه أو التغاضي عنه وعن مصالحه ومطالبه". لذا يبرّر الدبلوماسيون الغربيون الحرب في اليمن من جوانب عدة أبزرها "النجاح في كبح الجموح الإيراني من جهة بالإضافة إلى إبراز دور السعودية وقدرة الحكام على المواجهة والتأكيد على المحافظة على وجودها وسلطتها في الشرق الأوسط".
وبين "أمن إسرائيل" والحد من مشروع "الهلال الشيعي" وتحديد النفوذ في البلاد العربية ومنح الجماعات المختلفة ما يشبه الحقوق، تخرج كل هذه المجموعات منتصرة أو على الأقل غير خاسرة في مشروع "الولايات العربية".
اقرأ أيضاً: الاتفاق النووي والنفوذ الإيراني بالمنطقة: هل يدفع العرب الثمن؟