يقضي المواطن السوداني أحمد.م جل يومه جالساً في ظل متجر يبعد عن بيته نحو مائة متر تقريباً، تجده تارة يحدق في نقطه بعيدة في الفراغ الذي أمامه، وتارة أخرى يعود للواقع الذي حوله، يتجاذب أطراف الحديث مع رواد المحل من الرجال والنساء. هكذا باتت أيام أحمد "في خواتيم عقده الثالث" متشابهه منذ أن أبلغهم مدير مصنع المنسوجات الذي عمل به منذ أكثر من ثلاثة أعوام، "أنه لا يستطيع دفع رواتبهم، وأنه سيغلق المصنع".
يروى أحمد لـ"العربي الجديد" كيف أنه يعاني من وضع نفسي سيئ جداً منذ أن أصبحت صفة عاطل ملازمة له، إذ لا يتوفر له ما يساعده على إعالة أسرته المكونة منه ومن زوجته فقط، وهذه الأخيرة "لا ترحمه" حسب وصفه، إذ إنها تظل معظم الوقت تلاحقه بطلباتها التي لا تنتهي، وأحياناً تتعالى أصواتهما حينما يحتد النقاش بينهما. يقول أحمد بصوت فاتر: "على الرغم من أنني عاطل منذ نحو عام، إلاّ أن زوجتي تلح علي في توفير كل مسلتزمات المنزل الضرورية كانت أو الثانوية، وهو أمر يجعلني في وضع نفسي لا أحسد عليه".
حالة أحمد ليست الوحيدة، التي تكشف الوضع السيئ، الذي يعاني منه معظم العمال الذين تم تسريحهم من مصانع الخرطوم، بسبب إغلاقها وإعلان إفلاسها، فالعامل الأربعيني علي عبد الرحيم، الذي يعيل أسرة متوسطة ولديه أربعة أطفال يدرسون بالمراحل التعليمية المختلفة، كان يتقاضى راتباً شهريا لا يتعدى الـ (800) جنيه سوداني - 100 دولار تقريباً - ويقول إنه "لا يكفي متطلبات الأسرة واحتياجات أبنائه اليومية من مصروفات الدراسة ووجبة الفطور"، لكنه بالرغم من ذلك لا يملك إلا أن يتمسك بهذا الراتب.
الآن وبعد توقف المصنع الذي اعتاد العمل به، وجد علي نفسه بلا عمل لأكثر من خمسة أشهر، وطيلة تلك المدة يقول لـ"العربي الجديد" إنه ظل يبحث عن عمل جديد، ولأنه لم يكمل دراسته الجامعية، ليس له سبيل إلى الوظائف الحكومية"، طرق علي أبواب كل المصانع دون جدوى حتى تلك التي ما زالت تعمل، وجد أنها تسعى لتخفيض العمالة الموجودة ولا ترغب في استيعاب عمالة جديدة.
يضيف بصوت مرهق: "أضطر للعمل كعامل يومية ببعض المصانع والمخازن متى ما وجدت فرصة"، ويستطرد "هي مهنة ليست ثابتة وغير مجزية في ذات الوقت"، ويختم حديثه لـ"العربي الجديد" قائلاً: "لا نملك إلا أن ننتظر الفَرج من الله وحده، وأن يعود المصنع للعمل من جديد، ليس من أجلي أنا فقط، ولكن لأن مصير ومستقبل أبنائي مرتبط بعودته للعمل".
مصانع تحولت لمخازن
على غير العادة بدت الشوارع الفرعية والشارع الرئيسي الذي يمتد بطول المنطقة الصناعية بالخرطوم بحري، شبه خالية في هذا الوقت من نهاية دوام العاملين الذي عادة ينتهي في الثالثة عصراً، وقتها تشهد الشوارع ازدحاماً كبيراً تسببه سيارات توصيل عمال المصانع العائدين إلى منازلهم.
خلال جولة قام بها "العربي الجديد" في المنطقة الصناعية بضاحية الخرطوم بحري شمال العاصمة السودانية، بدت المنطقة كمدينة أشباح خالية تماماً من البشر، إلا من بعض الحراس المتواجدين أمام بعض من المصانع المتوقفة عن العمل، اتفقوا جميعا على إجابة واحدة ومكررة "المصنع واقف"، حاولنا دفعهم لمعرفة السبب لم يتجاوبوا، وحده ذلك الموظف بإحدى الشركات والذي كان يهم بركوب عربته، هو مَن لخّص لنا ما تشهده المنطقة الصناعية في كلمات مختصرة: "ثلاثة أرباع المصانع هنا تحولت لمخازن"، مشيرا بيده إلى مقر كبير بالقرب من شركته كان مصنعاً للأحذية، قائلاً إن "مستثمراً اشتراه ليحول مساحته الكبيرة لمخازن".
المستورد يهزم المحلي
أشرف عبد الرحمن، صاحب مصنع "طحينة" و"حلويات" يعد من المصانع المعروفة بالمنطقة الصناعية بالخرطوم بحري -مصنعه متوقف حالياً-، قال لـ"العربي الجديد" إن مصنعه تأسس في العام 1985 وبدأ الإنتاج فعلياً في العام 1991، يشرح أشرف في سياق حديثه أسباب توقف مصنعه عن الإنتاج، ويقول إن أحد أهم أسباب توقف العديد من المصانع هو عدم قدرتها على منافسة المنتج المستورد، لأن الفرق في تكلفة الإنتاج بينهما كبير جداً ويتراوح بين ( 40%- 50%).
يشير إلى أن الدولة فتحت الباب على مصراعيه لدخول السلع المستوردة، ذات التكلفة المنخفضة والضرائب المنخفضة - تصل إلى 3% فقط في السودان - وبالتالي تكون أسعارها في الأسواق منخفضة مقارنة بالمنتج السوداني المحلي، يعود عبد الرحمن ويؤكد أن المشكلة ليست في استيراد تلك السلع فقط، بل في عدم مطابقتها للمواصفات، ويجزم بأن كثيرا منها "غير صالح للاستهلاك الآدمي".
يتابع أشرف تحديد أسباب إغلاق المصانع، لافتا إلى مشكلة ارتفاع سعر الدولار وعدم استقراره وإيقاف التحويلات الخارجية، ويضيف "هذه مسألة خاضعة لسياسات الدولة، نضطر إلى شراء الدولار والعملات الحرة من السوق السوداء، وبالتالي زيادة تكلفة الإنتاج أضعافاً مضاعفة".
وعن تقدير خسارته المادية جرّاء توقف مصنعه، يقول "هناك خسائر مادية كبيرة، ولكن الخسارة الأكبر هي خسارة السمعة لأنك تخرج من السوق وتفقد اسمك، فالخسائر المادية مقدور على استرجاعها، أما استرجاع قوتك ومكانتك في السوق، فتعد مسألة صعبة في ظل الظروف الراهنة". ويضيف بأن هذه الأوضاع جعلت الكثير من أصحاب العمل والمستثمرين ينقلون أعمالهم واستثماراتهم إلى بعض دول الجوار وخاصة إثيوبيا، حيث تُقدم لهم العديد من التسهيلات والإغراءات، تصل إلى إعفائهم من الضرائب لمدة عشر سنوات.
مافيا الجبايات
يرجع الخبير الاقتصادي د. عبد العظيم المهل، ظاهرة توقف مصانع الخرطوم عن الإنتاج إلى عدة أسباب، أهمها، التحيّز الحزبي الذي أدى إلى خروج التجار الحقيقيين من السوق وظهور دخلاء في مجال الصناعة، موضحاً أنه في السنوات الأخيرة ومع إنشاء كل مصنع جديد كانت تُغلق ثلاثة مصانع، بسبب الامتيازات والإعفاءات الممنوحة للمصانع الجديدة مما جعل قدرة المصانع القديمة على المنافسة تقل كثيراً إلى أن توقفت تماماً عن الإنتاج، مشيراً إلى أن معظم هؤلاء التجار الجُدد ينتمون إلى الحزب الحاكم في السودان، أو على صلة ومصالح مشتركة به، وهم أنفسهم من يتم منحهم العطاءات الحكومية.
يمضي الخبير المهل معدداً أسباب توقف المصانع عن الإنتاج، ويقول لـ"العربي الجديد" إن الضرائب والرسوم والجبايات الرسمية وغير الرسمية، خلقت نوعاً من الفساد المالي والفوضى في تحصيل الأموال، لأن صاحب المصنع يأتيه في اليوم الواحد أكثر من شخص بإيصالات تحصيل من جهات عديدة، ويدفع لهم مجبراً ولا يملك أن يرفض أو يمتنع، ويتابع الخبير الاقتصادي قائلاً: "لا بد من حماية الصناعة من مافيا الجبايات"، حتى لا يهرب أصحاب المصانع إلى الخارج.
ويضيف المهل بأن ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج مع تصاعد سعر الدولار، جعل تكلفة الإنتاج والتشغيل تصبح عالية جداً، بالإضافة إلى السعر العالي للكهرباء التجارية، والأعداد الكبيرة من العمالة، ففي ظل كل تلك التكلفة لا تستطيع المصانع منافسة السلع المستوردة منخفضة الأسعار، والتي تتسبب في إغراق السوق، كالسلع الصينية مثلاً.
ولا ينسى المهل الإشارة إلى ضرر الحصار الاقتصادي الذي يتعرض له السودان، ويقول إنه أضر بالصناعة كثيراً وباتت المصانع غير قادرة على استيراد ماكينات أو قطع غيار من دول المنشأ، وصارت تستوردها من دول آسيوية ذات كفاءة أقل.
ويفصِّل الخبير الاقتصادي المهل، الآثار الاقتصادية المترتبة على توقف وإغلاق المصانع، ويقول إن تدهور الصناعة يعني تدهور الناتج القومي الإجمالي للبلد، لذلك كل الدول تحمي صناعتها وتدعمها، ليس للصادرات فقط بل لإحلال الواردات.
البرلمان يقر بصعوبة المشكلة
يشير رئيس لجنة الصناعة بالبرلمان عمر آدم رحمة، إلى أن تدهور الصناعة يعود لأسباب متعلقة بالتمويل، وأخرى متعلقة بمدخلات الإنتاج وبطبيعة نشاط المصنع. ويكشف أن نسبة المصانع المتوقفة عن العمل تصل إلى (60%) من جملة المصانع بولاية الخرطوم، ويقول "توجد مصانع عديدة متعطلة بالمنطقة الصناعية بالخرطوم بحري وأم درمان، وكذلك بمدينة ود مدني.
مشيراً إلى أن معظم تلك المصانع تمتلك تقنيات قديمة ولا بد من إبدالها بتقنيات حديثة، وهذا الأمر يكلف ميزانية كبيرة في التمويل". وأقر رحمة في حديثه لـ"العربي الجديد" بصعوبة علاج هذه المشكلة، مشيراً إلى أنها مشكلة قديمة وموجودة قبل حكومة الإنقاذ الحالية، موضحاً بأن علاجها يتطلب جهدا من أصحاب المصانع، وكذلك توفير التمويل والمواد الخام من الدولة. وضرب مثلاً بمصانع النسيج، وقال إن الكميات المنتجة منها لا تنافس في السوق المحلي ناهيك عن العالمي، بالرغم من حدوث تأهيل فيها واستخدامها تقنيات حديثة.
ولفت رحمة إلى أن (90%) من المصانع المتوقفة تتبع للقطاع الخاص، وقال يجب على الدولة أن تقف وقفة جادة لإعادة تشغيل هذه المصانع أو إيجاد حلول لها، لأن تعطيل المصانع أدى إلى تشريد العمالة، وزاد من نسب البطالة الموجودة.
تراجع القدرات المهنية
لا يقتصر ضرر توقف المصانع على الاقتصاد فقط، بل له آثار اجتماعية كبيرة، لأنه وراء كل عامل أو فني بتلك المصانع أسرة يعيلها. ويشير أستاذ علم الاجتماع الدكتور عبد المنعم العطا إلى أن هناك أثرا مباشرا يتمثل في فقدان الوظائف أي المركز الاجتماعي للأسر، وازدياد معدلات البطالة بشكل مباشر، وأما الأثر غير المباشر فهو أن الدولة تضطر عند توقف الإنتاج المحلي إلى الاستيراد، وهذا يتسبب في ارتفاع سعر الصرف وزيادة الأسعار، وبالتالي يؤثر على الحالة المعيشية للأسر، ويزيد معدلات الفقر، فالدخول ثابتة والأسعار في ارتفاع متواصل وليس هناك توافق بينهما.
ويضيف العطا لـ"العربي الجديد" أن هناك أيضاً آثارا أخرى، منها أن توقف الإنتاج يؤدي إلى تدهور قدرات البشر المهنية والمهارية وتراجع خبراتهم، مقابل تزايد انتشار المهن الهامشية، في بلدٍ نسبة الإعالة الديموغرافية فيه عالية أصلاً.