اختتمت اليوم في تونس العاصمة فعاليات الدورة الرابعة عشرة من "المنتدى الاجتماعي العالمي" (من 24 إلى 28 آذار/ مارس الجاري). وقد شهد "المركب الجامعي فرحات حشاد" في ضاحية المنار بتونس العاصمة، أغلب أنشطة المنتدى علاوة على فضاءات أخرى متفرقة.
أتت هذه الدورة في سياق أمني تعيشه تونس بعد العملية الإرهابية التي عرفتها خلال الأسبوع المنقضي. وقد بدا واضحاً أن هذا الحدث قد غيّر الكثير من المواعيد، وكذلك الكثير من الأفكار المطروحة، حتى أنه يمكننا القول بأن منتدى 2015 عرف بعداً جديداً هو نقد التطرّف إلى جانب محوره التقليدي بنقد التوحّش النيوليبرالي.
من قبل انطلاقها، عرفت دورة تونس 2015 الكثير من الانتقادات على مستوى التنظيم، من أبرزها تأخر نشر البرمجة الكاملة، وضعف التغطية الإعلامية، وقد استمر هذا الأمر طوال أيام المنتدى. في هذا الإطار، يلاحظ المتابع مجهودات متفرقة من كل منظمة مشاركة للدعاية لأنشطتها، بل إن بعضها انحصرت جهوده بتعليق ملصقات داخل فضاء المنتدى أو نشر دعوات عبر الفيسبوك.
ولعلّ التحسّبات الأمنية كانت سبباً رئيساً لاضطرابات التنظيم. وهنا نسجل تأخير العديد من المواعيد بسبب بطء توافد الزوار على خلفية عمليات التفتيش المكثفة في البوابات، حيث يُمضي الراغبون في دخول مواقع الأنشطة ساعة أو ساعتين في بعض الأحيان لدخول المركب الجامعي، وهو ما شوّش بعض الشيء على فلسفة "الفضاء المفتوح" التي يقوم عليها المنتدى.
عامل ثان عكّر السير الطبيعي للفعاليات وهو الظروف المناخية التي أجبرت المنظمين على تأجيل أو إلغاء عدة عروض فنية، أهمها الحفل الموسيقي في الشارع الرئيسي للعاصمة تونس، يوم الثلاثاء 24 آذار/ مارس، والذي كان من المفترض أن يقام عقب مسيرة افتتاحية تفضي إلى متحف باردو الذي أعيد فتحه للعموم بالمناسبة، بعد إغلاقه إثر العملية الإرهابية التي هزته يوم الاربعاء 18 آذار / مارس. قلة العروض الفنية أفقد المنتدى بعده التنشيطي والفني، واختزله في محاضرات ونقاشات فكرية وسياسية.
ينقسم البرنامج اليومي للمنتدى إلى ثلاث حصص يومية: الأولى صباحية (من الثامنة إلى الحادية عشرة صباحاً)، ووقت الزوال (من الساعة 11 إلى الساعة الثانية ظهراً) ومسائية (من الساعة الثالثة إلى حدود الخامسة والنصف مساءً)، بمعدل 80 نشاطاً في كل حصة، تدور جميعها بالتوازي وبلغات شتى.
يمكن حصر محاور اهتمام فعاليات المنتدى في فئتين كبيرتين، وهذا أمر عابر للدورات. أولهما هو التوعية بمخاطر النظام العالمي الجديد، ومن أهم فعاليات هذا المحور نجد: "الهيمنة المالية وأدواتها"، "كسر إعادة الاستعمار في أفريقيا"، "تحديات الأوليغارشية الرأسمالية"، "روح الغابات"، "صراعات الجغرافيا السياسية اليوم"، "السياسات التجارية في شمال أفريقيا"، "التعليم الخاص وتوريث الفقر".
أما الفئة الثانية، فتتمثل في التعريف بوسائل المقاومة المدنية للعولمة، ومن أبرز فعالياتها: "فوتوغرافيا في مواجهة الهشاشة"، "الفنون والأماكن العامة"، "تفكيك السلطة التنفيذية"، "لا تكره الإعلام.. كن الإعلام"، "سلطة اللعب.. لعبة التغيير"، "من أجل مهندسين مواطنين"، "عيادة الكمبيوتر المحمول"، "ورشة الصحفي المواطن".
وكعادتها كانت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة، وقد خُصّص فضاء "خيمة فلسطين" لاحتضان العديد من الأنشطة، كالمعارض والمحاضرات والأفلام الوثائقية، نذكر منها: "القضية الفلسطينية والتغيرات الإقليمية"، "فن الحياة في غزة وفلسطين"، "قلقيلية السجينة"، "الواقع الفلسطيني وأزمة دول الطوق".. كما عرفت فضاءات أخرى في وسط العاصمة، تظاهرات على هامش المنتدى تناولت القضية الفلسطينية مثل معرض "100 بوستر من أجل فلسطين" أو "سينما فلسطين".
يقطع المنتدى مع فكرة القائلة بأن مشكل كل بلد هو مشكله الخاص، ولذلك تكون طاولات الحوار فرصة لتقديم الإشكاليات والتحاور حول الحلول الممكنة لها في أطر المقاومة المدنية. رغم ذلك، هناك اعتراف سائد في قاعات النقاش بأن الثورات العربية، مثلاً، قد وصلت إلى طريق مسدود، ويُرجع بعضهم ذلك إلى مناخ سياسي واجتماعي يعطل محاولات التغيير الجذرية.
كثيرة هي الملاحظات يخرج بها متابعو أنشطة المنتدى. يمكن اعتبار مرونة الأطروحات المقدمة، وانفتاحها على أبسط مشاغل المواطن البسيط وعالميتها من أبرز ما يسجل لصالح المنتدى، كما أن أثر التحيين يبدو واضحاً على المواضيع التي يتم تناولها. ويُجمع المشاركون على أن القوى التقدمية اليوم بدأت تصل إلى درجات نضج تجعل نضالها أكثر فاعلية، ومن هنا يبدو التنسيق والتقارب بينها عاملاً من عوامل مزيد الفاعلية.
وإذا تحدثنا على مستوى أكثر شمولاً، فإن المنتدى يهدف، منذ بعثه في البرازيل في بداية الألفية، إلى ربط الصلات وتنسيق الجهود بين مختلف منظمات المجتمع المدني تحت شعار "عالم آخر ممكن"، أي عالم غير العالم الذي تطرحه العولمة. وقد كانت الشرارة التي أطلقت هذا المنتدى هو أن يكون بديلاً عن "المنتدى الاقتصادي العالمي" الذي يدور كل عام في مدينة دافوس السويسرية، فكانت الدورات الأولى تقام في نفس الموعد قصد التشويش على دافوس، إلا أن الحدثين صارا بمرور السنوات ينتظمان بصفة منفصلة.
في بداياته، احتضت بورتو أليغري البرازيلية المنتدى لثلاث دورات متتالية (من 2001 إلى 2003) قبل أن ينتقل إلى بومباي الهندية في 2004، ثم أخذ يمرّ بوتيرة شبه سنوية من عدة محطات في العالم مثل نيروبي الكينية، كاراكاس الفينزويلية، كراتشي الباكستانية، وتونس خلال الدورتين الأخيرتين 2013 و2015 بينما تنتظم الدورة القادمة 2016 في مونريال الكندية.
يتعرّض "المنتدى الاجتماعي العالمي" لانتقادات عدة، جزء منها متأت من جهات رسمية ترى فيه حالة ضغط عشوائي وإثارة للجماهير، وجزء من هذه الانتقادات متأت من الأحزاب اليسارية في العالم باعتباره يتحدث باسم اليسار العالمي دون أن يقدّم إضافات لهذا الفكر، غير أن المنتدى يصبو بالأساس، وبصفة معلنة، إلى توفير فضاء لتبادل الخبرات والإستراتيجيات وتقديم فرص التعارف.
هذه الطموحات وما يحققه المنتدى، تجعلنا نقر بأنه تظاهرة لم تبلغ بعد مرحلة النضج. ولعل المتجول بين مختلف فعاليات دورة تونس هذا العام يكتشف هذا الأمر بشكل ملموس، فدوائر النقاش ظلت مشتتة بين فضاءات متباعدة، وانتظم معظمها في أوقات متزامنة حتى كأن كل مشارك جاء ليقوم بنشاطه، لا أن يتفاعل مع الآخرين، وهو ما حرم المتابعين، والمشاركين أيضاً، من الاستفادة القصوى من الفعاليات.
إن "المنتدى الاجتماعي العالمي" هو صورة هذا اليسار العالمي الجديد. لا زال غير مكتمل الملامح، يجتهد للتخلص من تركة إيديولوجية ثقيلة فيحاول تصريفها في ممارسات عمليّة، مثل قضايا البيئة وحقوق الإنسان، دون أن ينسى معركته الرئيسة ضد التوجهات التي يفرضها النظام العالمي ضدّ إرادة الشعوب فيسعى لنشر ثقافة المقاومة المدنية، وعلى رأسها تفعيل التكنولوجيات لصالح الحريات لا ضدها.
هذا الطرح المغاير، يجعل من هذا اليسار حالة جديدة عصية عن التصنيف. فهو يسار أقل راديكالية وبالتالي أصل صدامية من الموجات التي عرفها القرن العشرين، يقبل ما تقدمه الرأسمالية للبشرية ولكنه يحاول أن يذهب بها نحو غايات أخرى. وإننا لو نظرنا للأمر بتمعن أكبر سنجد أن هذا اليسار الجديد، هو نفسه، أحد تجليات العولمة، بما أنه يستغل وسائلها وتكتيكاتها في نضاله ضدّها. إنه بشكل ما عولمة مضادّة.