المعلّقات عابرةً الزمن واللغات

09 يوليو 2015
بيوت ثمود في منطقة الحجر/ الجزيرة العربية
+ الخط -

لا تزال المُعلقات الجاهلية تلفت أنظار قرّائها من العرب والمُستعربين، مع أنَّ ألغازاً عديدة تَكتنف تاريخها وصدقية أبياتها وبُناها والمراجع التي تحيل إليها.

وآخر الأدلة على هذا الاهتمام بالمُعلقات، صدور طبعة جديدة (مارس 2015) لتَرجَمة كاملة للسبع المُذَهَّبات، كانت قد صَدرت سنة 2000 عن دار "فاتا مورغانان" أنجزها المُستعرب الفرنسي بيار لارشي. عمل يحملنا على التساؤل عن أسباب هذا الاهتمام.

ولعل أول هذه الأسباب يكمن في أن هذه النُّصوص المكتوبة - وكانت تُنشد - تُشكّل قاعدة مشتركة للثقافة العربية ومرجعية تدلّ على رفيع الأدب وأجود القصائد فيه، بالرغم من حملة التشكيك التي قادها المستشرق الإنجليزي مَرغليوث، وتبعه فيها طه حسين في عشرينيات القرن الماضي. فهو عود على بدءٍ وانشدادٌ إلى نصوص لا تَفقد نضارتها لأنَّها تؤسس لأعماق الكيان الثقافي وللمرجع الأول الذي تَجب زيارته في كل حقبة تجديداً للعهد.

وأما ثاني هذه الأسباب، فهو القيمة الجمالية لهذه القصائد التي أجمع على رَوْنَقها النقاد القدامى - وهم مَن هم في تمييز الكلام - كما تَعلَّق بها المستشرقون ومنهم جهابذة تحقيق النصوص، وما ذاك إلا لأنَّ قيمتها الجمالية تَتعالى على التاريخ. جِدَّتُها، إذاً، كائنة في جمالها الذاتي الذي لا يَنضب، ولا يفعل فيه الزمن.

وثالث الأسباب، فهو أنَّ ترجمتها والعكوف على دراستها هما مضمارا قياس المَلكة، ومعرفة مدى التمكن من اللغة، الراقية بصورها، المعجزة بتراكيبها. معرفةُ الشعر الجاهلي مِعيار يَحكم الدارسون بواسطته على مدى تمكنهم من سجلاَّت القول القديمة والتراكيب النحوية المستعصية، إلى جانب الاطلاع على الغريب وحوشي الكلام.

كما يَقيس المستعرب مَدى فهمه لتلك النصوص المتقادمة وقُدرته على إخراجها في الثوب الأعجمي بترجمة تراعي مقتضيات اللغتين: المنقول منها والمنقول إليها، وهذا ما أنجزه جل المستشرقين مثل جاك بيرك وهيدي توليي وشميدز، على تفاوتٍ بينهم.

أخيراً، إن السحر الذي تَبثّه تلك القصائد المعتقة في قارئها ومُنشدها، تحيط بها الأسرار من كلّ جانبٍ، وتتحيَّر العقول في ألغازها، فلا أحد يَدري مبتدأها ولا كيف اكتملت بناها، بعد أن رقصت معانيها مع تراقص البحور والقوافي.

إن الترجمة بطبيعتها ملامسة للإنسان ومحاورةٌ لتجاربه العميقة، بحثاً عن الأصداء التي يسمعها الإنسان ككلٍ. انظر إلى قول الملك الضليل وهو يغازلُ: "وأنَّكِ مَهْما تَأمري القلب يَفعلِ" سَمعها البَدوي فأطربته، ونظرَ إليها نَحويٌّ في البَصرة فأرّقته، وأنشدها طالب أزهري فهزَّته، وتَرجَمها عالم فرنسي فَغذت عقله ووجدانه.

على أنَّنا، وإن أعجبنا بهذه الترجمة، وسافرنا معها إلى شعاب البادية، ما أحسسنا أننا عدنا إلى الماضي، بل اتصلنا بعالمنا الراهن - والعربي جزءٌ منه - لفهمه، بالغوص مجدداً في نصوصه التأسيسية.

المساهمون