المطاوعة.. لماذا يفشل السيسي حيثُ نجح حافظ الأسد؟

05 نوفمبر 2015
يثيرني دائماً كيف يتحدث الطغاة عن علاقتهم بالشعوب(فرانس برس)
+ الخط -
خطب الجنرال المصري أمام كاميرا التلفزيون الرسمي قائلاً: أيا معشر النّاس؛ حَلُمَ المصريون بالقضاء على الاستبداد، فخرجوا إلى الشوارع تَتْرى، ثم أيقظتُهم أنا من الحلم الجميل وحررت البلاد من شعارَي الحرية والعدالة المزيفين. أيا معشر المحبين، عمالاً كنتم أم فلاحين؛ احتشدوا من أجل الانتخاب ولأجلي، واحتفلوا بوطن يليق بي وبأوسمتي، فأنا الذي حققت لكم نصراً تلو نصر: خطبت في الجمعية العمومية دون أخطاء لغوية، وكشفت الإيمان الكامن في صدر الملحدين، وأكدت لكم أن الأمور في سيناء ليست تحت السيطرة فقط بل مستقرة تماماً.


أمّا الجنرال السوري فخطب أمام مرآة في قبره قائلاً: شعبي جائع وفقير والإرهابيون يمنعون عنه الشمع والكافيار. طوبى للرعية الحرّة المحيطة بولدي كالسوار، واللعنة على عالم غارق في التفاهات؛ عالمٌ لا يريده رئيساً، ويتهمه بقتل الآلاف. ويطالبه، ليل نهار، بإسدال الستار عن حقبته وتسليم خيوط الفجر لشخص لا تعلق صوره على الجدران. عالمٌ يطالبه بكثير، وهو لا يريد إلاّ القليل؛ كل ما يسعى إليه هو القضاء على آفة الإرهاب. وكل ما ينشده هو إعادة الكافيار ليأكل منه شعبي المختار وإعادة الشمع إلى عموم البلاد، كي نحتفل العام القادم سوية بعيد ميلاد ابني الخمسين.

يثيرني دائماً كيف يتحدث الطغاة عن العلاقة بينهم وبين الشعوب، وكيف يحولون الاستعارة والكناية وغيرهما من أدوات اللغة إلى أفيون يخدّر الحس العام ويجعلنا في قناعة تامة أن ظهورهم في حياتنا كان تحولاً تاريخياً كبيراً بحجم اختراع الكهرباء أو اكتشاف أحد الكواكب البعيدة، وأن ذهابهم من دنيانا يتعارض وقوانين الطبيعة وربما يؤدي إلى سقوط السماء على الأرض أو هجرة الشمس من مجرتنا.

حكم حافظ الأسد سورية ثلاثة عقود كان فيها الرفيق، والمناضل، والقائد إلى الأبد؛ كان فيها المعلم الأول في المدارس، والطبيب الأول في المستشفيات، والرياضي الأول في الملاعب. يعلمُ كل شيء عن كل القضايا، والأهم أنه كان يحصل على 99.8% في استفتاءات بقائه في الرئاسة لولايات دستورية جديدة.

حقبة الأسد الأب كانت عاراً، يكررها الكاتب السوري، خالد خليفة، في روايته "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة". عارٌ عمّ عفّن البلاد وشوّهَ معالم البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وعلى الرغم من ذلك لم يجد حتى وسيلة دفاع بدائية كسكين مطبخ تقف في وجه طوفانه. أما الباحثة الأميركية، ليزا وادين، فكانت أقل قسوة على السوريين من خليفة عندما قالت في كتابها "السيطرة الغامضة"، إن الأسد الأب فشل في توظيف الشرعية كما تصوّرها عالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر، والهيمنة التي حللها المفكر الإيطالي، أنطونيو غرامشي، للبقاء في السلطة، فلم يبق أمامه سوى خلق هالة من القدسية حوله واستحضارها بكثرة أمام المتلقي على أمل أن يعتاد عليها مع مرور الوقت ويصدقها.

يُطلق على هذا النوع من العقود الاجتماعية اسم "المطاوعة"، وهو، وفقاً لوادين، إكراه الناس على إنتاج خطاب ينكره العقل أو يدعو للسخرية؛ ففي عام 1985 مَهَرَ السوريون كلمة "نعم" في استفتاء بقاء الأسد لولاية رئاسية ثالثة بالدم، بعدما بات واضحاً أن أقرب الناس إلى حافظ الأسد فشل في إعطاء صلة الدم بينه وبين أخيه حقها من القداسة بمحاولة الانقلاب عليه عام 1984. أما استفتاء 1992 فظهرت فيه صور الأسد وقد كُتب عليها "نعم لأبي باسل" في إشارة لابنه الأكبر الذي كان يُحضَّر لأن يصبح رئيساً لسورية. وبين الاستفتاءين تميز الخطاب البلاغي المقدس للأسد بالمرونة فهو "فارس الحرب" عندما يتعلق الأمر بالمشاركة في تحرير الكويت و"رجل السلام" عندما يكون الحدث المفاوضات العربية الإسرائيلية في العاصمة الإسبانية مدريد.

كانت فرضية" المطاوعة" سوريّة بامتياز، لم ينافسهم عليها أحدٌ سابقاً، أمّا اليوم فيقوم نظام الرئيس، عبدالفتاح السيسي، بمحاولات لإعادة إنتاج هذا النوع من العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بمساعدة جيشٍ من الإعلاميين ورجال الدين وحملة الشهادات العليا. السيسي اليوم كما الأسد في الأمس البعيد يمتع بصفات تفوق قدرة الإنسان الفرد وتقترب به من مرتبة التقديس والتأليه المزيف؛ هو المنقذ ومعارضوه بغاةٌ يجب قتلهم، وكما كُتب على بوابة مسجد بني أمية الكبير "طلبنا من الله المدد فجاءنا حافظ الأسد"، يصور السيسي ووزير داخليته السابق، محمد إبراهيم، على أنهما رسولان من الله مثل موسى وهارون عليهما السلام.

عندما افتتح الرئيس المصري تفريعة قناة السويس الجديدة، تغنّى الموالون بالإنجاز، فوصفه أحد الصحافيين بالمشروع الذي يتعدى في أهميته السد العالي، فيما ذهب آخر للقول إنه أعظم من الأهرامات. أما وزير الأوقاف فلم يجد حرجاً في المقارنة ما بين التفريعة والخندق الذي حُفر في غزوة الأحزاب. هذا النفاق "النخبوي" قابله ضبابية على مستوى القواعد العامة نابعةٌ من صعوبة قياس مدى الاستهلاك الشعبي للمديح الزائف وفكرة تقديس السيسي. كل ما كنّا نراه على شاشات التلفزة المصرية من دعمٍ للسيسي كان عبارة عن صور يقدمها النظام ويتوقع من المتفرج أن يعتاد عليها مع مرور الوقت. كانت الانتخابات البرلمانية هي المقياس الأفضل لمعرفة مدى انضباط المصريين في لعبة المطاوعة، ولا سيما أن الفضاء العام كان مزدحماً بشعارات وإيماءات تحول مجرد الإدلاء بالصوت إلى عمل بطولي. فنانون ومثقفون ورجال دين ظهروا على الشاشات وكتبوا في الصحف وفي مواقع الإنترنت داعين المصريين إلى المشاركة في الانتخابات البرلمانية، آخر خطوة تقطعها البلاد نحو الانتقال الديمقراطي وفقاً لخارطة الطريق التي وضعها السيسي نفسه، لكن الرد الشعبي كان التجاهل التام والتأكيد على أن المسافة بينه وبين المطاوعة بعيدة جداً.

لا شك في أن عزوف الشباب عن المشاركة في الانتخابات هو رفضٌ مصري تام لقبول لعبة "المطاوعة" التي أجبر السوريون على الانخراط فيها أربعة عقود. التجاهل التام ورفض لعب دور "الكومبارس" هنا لا يعني ابتعاداً عن المشهد، بقدر ما يعني رفض الدور السلبي الذي تقوم به النخب الثقافية التقليدية في المجتمع المصري. المثقف الحقيقي، خصوصاً في المراحل التاريخية المفصلية، هو المثقف الذي تربطه علاقةٌ عضوية بمجتمعه وآلامه وليس ذاك الذي يرتبط بعلاقة نفعيّة مع سلطة الأمر الواقع.

(سورية)
المساهمون