المرزوقي منتصراً.. أو منتصراً

12 نوفمبر 2014

(عماد حجاج/العربي الجديد)

+ الخط -

"جميع ما يحتاج إليه الوالي رأيان: رأي يقوّي سلطانه، ورأي يزيّنه في الناس"، هكذا تحدّث عبد الله بن المقفّع عن الأدوات التي من شأنها أن تساعد الحاكم وتمنحه التمكين والاستقرار. والطريف أنّ كلامه ينطبق تماماً على وظيفة الإعلام في عصرنا الحديث، من حيث دوره في التزيين والتجميل. وقد نجح الإعلام العربيّ الرسميّ في القيام بتلك الوظيفة، ومازال يثابر لتلميع صورة (الوالي) المنزّه عن الخطأ، بامتداح أقواله وأفعاله، ما يبقيه في السلطة أبديّا سواءً كان يمشي على اثنين، أو ثلاثة، أو أربعة، أو مُقعداً على كرسيّ متحرّك، أو طريحاً على فراش المرض، أو محتضراً يقاوم الموت، أو ميّتاً يُلهم وَرِيثه... والأمثلة في وطننا العربيّ وافرة والحمد لله.

في تونس، تكشف مقارنة دقيقة بين واقع الإعلام قبل الثورة والنشاط الذي عرفه في فترة الانتقال الديمقراطيّ، التطوّر العجيب الذي شهده ليبلغَ مستوى الانقلاب من التزيين والتلميع، في عهد بن علي، إلى التقبيح والتشنيع في عهد الترويكا التي انسحبت ولم يبق من رموزها إلاّ المنصف المرزوقي، الرئيس الأعزل، فهو محروم إلى اليوم من رعاية الإعلام وزينته. وليس ذلك دليلاً على نضج طارئ أو استفادة من حريّة جاءت بها الثورةُ، بقدر ما هو انتصار لطرف على آخر، وخدمة لمن ظلّ يحكم من وراء الحُجُب. ودليلنا على ذلك أنّ أغلب قنواتنا التلفزيونيّة العامّة والخاصّة "خفضت جناح الذلّ من الرحمة" لـصالح (الأب الحنون) قايد السبسي، كما وصفه لفيف من الإعلاميّين، تفسيراً لصعود نجمه، وإمكانيّة وصوله إلى منصب الرئاسة بعد استنساخ صورة (بالأبيض والأسود) عن شخصيّة الزعيم الحبيب بورقيبة.

وفي مقابل ذلك، تتعرّض صورة المرزوقي إلى ألوانٍ من الإساءة في منابر إعلاميّة يُغيّب عنها، فيُتّهم بإسقاط هيبة الدولة، والعبث بمؤسّساتها، وتتجرّأ أصواتٌ على التشكيك في مداركه العقليّة، واعتباره مضطرباً لا يصلح لرئاسة البلاد. ويُهاجم هذه الأيام، بشراسة في حملة انتخابيّة، تُــنتهك خلالها الضوابط التي تضمن حياد وسائل الإعلام، والمساواة بين جميع المترشّحين، على مستوى المساحة الزمنيّة المخصّصة لحضورهم، والابتعاد عن تشويههم أثناء غيابهم.

وليس الرئيس المرزوقي غافلاً عن ذلك كله، فقد تحدّث عن مهاجميه في كتابه الجديد الذي اتّخذ من عنوانه شعاراً لحملته الانتخابيّة: "ننتصر.. أو ننتصر"، فقال مشخّصاً العلل التي أصابت جسم الإعلام: " ما شاهدناه إبّان الثورة، سواء في تونس أو مصر، من انهيار للإعلام، مرتبط أوثق الارتباط بانهيار قاعدته الأخلاقيّة، حيث أطلّ علينا (صحافيّون) يكذبون ويبثّون الكراهيّة، ويحرّضون على العنف و(يتمعّشون) من المال القذر، ويستعملون حريّةً لم يناضلوا أبداً من أجلها كأداة لقتلها". ولذلك، يعتقد الرئيس المترشّح لولاية ثانية أنّ "المطلب الأخلاقيّ هو اليوم لبّ الربيع العربيّ".

ويقدّم المرزوقي، بترشّحه للرئاسة رافعاً سلاح الفكر والأخلاق بين دفّتي كتابٍ، نموذجاً فريداً في واقعنا الحضاريّ، ماضياً وحاضراً وربّما مستقبلاً، إذا قُضي نهائيّاً على منجزات الربيع العربيّ، وفي مقدّمتها التدوال السلميّ على السلطة، بواسطة الانتخاب... ويكرّسُ بصورته تلك ثباتاً على المبادئ والقيم، بما يؤهّله لتحقيق نصريْن، والحصولِ على أجريْن، أو الاكتفاء بشرف المحاولة، والحصول على أجرٍ واحدٍ. وفي هذه الحالة، يكون قد انتصر لقناعاته، حتّى وإنْ عجزت عن الوصول به إلى الهدف المنشود، بسبب انتشار التجاوزات التي تخدم أجندات المفسدين في الداخل والخارج.

إنّها المعركة إيّاها بين عمق الفكر وثبات أصله وجذوره، وسطحيّة الظاهر الذي لا قرار له، كشجرة خبيثة، مصيرها الاجتثاث. وعلى أساس ذلك التنافر، رفض المرزوقي ربطة العنق، ورغب عن زينتها، على الرغم من انتقادات كثيرة انهالت عليه بسبب (قلّة أناقته)، حسب المنطق الشعبيّ الذي ينخدع بالصور الجامدة، ولا يلتفت إلى المسلك والتكوين العلميّ الأجدر بالحسبان والاهتمام، فليس التونسيّون بحاجة إلى رئيس يربط عنقه، ولا يعنيه من أمر الرئاسة إلاّ أناقتها الزائفة وبهرجها الظاهر، بقدرِ حاجتهم إلى زعيم قويّ ربيط الجأش، أي "شديد القلب كأَنّه يربط نفسَه عن الفِرار بجُرْأَته وشَجاعته"، كما ورد في لسان العرب. وتذكّرنا عبارة "الفرار" بهروب المخلوع الذي لم يفلح إلاّ في الظهور بالمظاهر الأنيقة المخادعة، حتّى جاشت نفسه حين أفاق يوماً على خبر سيّء يزفّ إليه ثورة شعبه "فغَثَتْ أَو دارَتْ لِلْغَّثَيان"، كما يقول ابن منظور (التونسيّ النشأة) في معجمه، ويضيف مفسّـرا: "وجاشت نفْس الجبان، إِذا همَّت بالفرار".

وفي الختام، يُخيَّر التونسيّون قريباً بين صورتين للرئيس القادم: صورة فريدة لمترشّح يرفع كتاباً، ويحمل فكراً لبناء مستقبل أفضل، وصورة مكرّرة تجمع بقيّة المترشّحين المتشابهين من "ساسة اليوم الذين يَبْدون كالتماثيل المُعارة من متحف الشمع... إنّهم في بزّاتهم ينتظرون الدفن". هكذا وصفهم الكاتب والمخرج الأميركي، باري لفينسون، وسخر منهم في أعماله. فأحسنوا الاختيار أيّها التونسيّون. ولا تبعثوا الأموات من قبورهم، لعلّكم ترحمون!

42AEC1D7-8F5A-4B18-8A1C-9045C7C42C2B
عبد الرزاق قيراط

كاتب وباحث تونسي من مواليد 1965. من مؤلفاته كتاب "قالت لي الثورة" سنة 2011. وكتاب "أيامات الترويكا" سنة 2014. له مقالات متنوعة بصحف ومواقع عربية عديدة.