المدرسة والفوارق الاجتماعية في المغرب

24 يناير 2018
+ الخط -
أحد أهم خلاصات أحدث تقرير صادر عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في المغرب، وهو مؤسسة دستورية رسمية يترأسها أحد مستشاري الملك محمد السادس، تقول إن التعليم في المغرب أصبح أداة لتكريس الفوارق الاجتماعية. وانطلق التقرير من الجواب على سؤالين مهمين مفادهما: "لماذا التلاميذ المغاربة ليسو متساوين اجتماعيا؟" و"إلى أي حد ساهم النظام التعليمي في المغرب في الحد من الفوارق الاجتماعية وتحقيق العدالة الاجتماعية؟".
وخلص التقرير إلى أن التلاميذ المغاربة يصلون أصلا إلى المدرسة، وهم غير متساوين من حيث وضعهم الاجتماعي والثقافي، وأن التعليم إنما يزيد من تكريس هذه الفوارق، بدلا من محوها، بسبب الانقطاع المبكر عن الدراسة والرسوب وضعف التكوين.
فالتعليم أول عوامل تقرير مصير الإنسان، وكلما كان قويا وذا جودة عالية إلا وعمل رافعة اجتماعية للفرد داخل جماعته. وفي تجارب كل الدول المتطورة، مثل الدول الاسكندنافية واليابان، أو تلك الصاعدة في شرق آسيا، اعتمدت على التعليم لصناعة تطورها ونموها. وكلما قلت جودة التعليم، أو انعدم تكافؤ الفرص داخل المجتمع نفسه، للحصول على مستوى تعليم جيد، إلا وأثر ذلك على مستوى نمو المجتمع، وزاد من الفوارق الاجتماعية داخله، وأثر على تطوره ونموه. ويتحول التعليم من رافعةٍ للطبقات الاجتماعية ومحقق للمساواة إلى أداة للفرز الطبقي، وتكريس التفاوتات في الأوضاع الثقافية والاجتماعية.
وفي حالة المغرب، فإن تدهور مستوى التعليم ليس أمرا طارئا، وإنما كان سياسة انتهجتها 
الدولة منذ استقلال البلاد قبل أكثر من ستة عقود. ويحكى أن الملك الراحل الحسن الثاني (حكم المغرب ما بين 1961- 1999)، طلب، في سبعينيات القرن الماضي، من أحد مستشاريه إنجاز تقرير عن وضعية التعليم. وخلص التقرير الذي أنجزه محمد شفيق، وكان في الوقت نفسه مدير "مدرسة الأمراء" داخل القصر، إلى أن أساليب التعليم داخل الكتاتيب القرآنية التي قامت وزارة التربية آنذاك بتعميمها، وفرضتها على النشء قبل الدخول إلى المدرسة العمومية، ستؤدي إلى تكريس ثقافة الخنوع، لأن طريقة التدريس في تلك الكتاتيب التي كانت تعتمد على الحفظ والعقاب إنما تنمي ثقافة الخوف وانعدام الشجاعة عند الطفل. وبدلا من أن يأخذ الملك بنصيحة مستشاره الذي أوصى بإلغاء أساليب التعليم التقليدي، أمر بتعميمها، لأنه كان يرى في التعليم آنذاك أداة لتخريج مثقفين معارضين له. وفي حوار مع الصحافي الفرنسي جان دانييل، مؤسس وصاحب مجلة نوفيل أوبسرفاتور، يتذكر هذا الصحافي اليساري المخضرم الذي كان يعتبر صديقا لملك المغرب الراحل، أنه سأله ذات يوم: "لماذا لا يُطور التعليم في المغرب؟"، فجاء جواب الملك حاسما: "أتريد مني أن أعزّز صفوف معارضتي اليسارية؟".
هذا التوجه الرسمي للقضاء على التعليم العمومي في المغرب أكده تقرير مغربي رسمي صدر عام 2005، بطلب من الملك محمد السادس، وأشرف على إعداده أحد مستشاريه، وحمل عنواناً: "50 سنة من التنمية البشرية في المغرب"، وخلص إلى أن المنظومة التربوية في المغرب بدأت بالتراجع منذ سبعينيات القرن الماضي، قبل أن تدخل في أزمة طويلة ما زالت مستمرة. كما لاحظ التقرير أنه على الرغم من كل "الإصلاحات" التي باشرتها السلطات العمومية في المغرب خلال العقدين الماضيين، إلا أنها لم تنجح في رفع مردودية التعليم الذي تحول إلى آلةٍ ثقيلة تشد البلاد إلى الخلف، بدلا من أن تقودها إلى الأمام.
وبدلا من الإصلاح الجذري لقطاع التعليم الذي يستهلك سنويا سدس ميزانية المغرب، (ميزانية 
التعليم برسم ميزانية 2018 حددت في أكثر من 59 مليار درهم مغربي، أي أقل بقليل من 600 مليون يورو)، عمدت السلطات العمومية إلى اعتماد الحل السهل بالترخيص للمدارس الخصوصية التي باتت تستوعب أكثر من 15% من أبناء الأسر المغربية، حسب دراسة أعدها عام 2015 المركز العالمي للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية والثقافية". وتوقعت أن ترتفع النسبة إلى 25% عام 2025، ما يعني استمرار نزيف المدرسة العمومية التي تحولت إلى "عالةٍ" على ميزانية الدولة المغربية.
والمشكل اليوم في المغرب أن التعليم الخصوصي الذي كان ملجأ لأسرٍ تضحّي من أجل إنقاذ أبنائها من مصير محتوم، تحول هو الآخر إلى مجال للمضاربة والربح والاستغلال، بعد أن اعتراه الفساد، وتسرب إلى مناهجه الإفلاس نفسه الذي نخر مناهج التعليم العمومي قبله.
وداخل هذه الدوامة من الفساد والإفلاس، فإن من يؤدي الفاتورة الكبيرة هم أبناء الأسر الفقيرة وأبناء القرى والبوادي الذين يُحرمون من فرص تعليم جيد، قادر على تنمية قدراتهم الذهنية والفكرية، لأن الأسر الميسورة تعمل على توفير تعليم جيد لأبنائهم، سواء داخل مدارس أو معاهد وجامعات خاصة غالية التكلفة، أو في مدارس البعثات الأجنبية أو خارج المغرب، لتبقى الفوارق الاجتماعية كما هي عليه، بحيث يرث الفقير الوضع الاجتماعي السيئ لأسرته، ويخلف الغني أسرته في تبوّؤ صدارة الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع.
ويؤدي عدم التكافؤ في الحصول على تعليم جيد إلى عدم تكافؤ في الحصول على الفرص في مجال العمل، وهو ما يجعل المجتمع يعيد إنتاج نفسه وطبقاته الاجتماعية، وتتحول المدرسة إلى "آلة تدوير" ضخمة، تعمل على تكريس الفوارق الاجتماعية التي تنخر المجتمع في صمت، وتهدد استقراره ونموه.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).